الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

تأملات في الآية الكريمة:

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 135

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1444ه / نوفمبر 2022م

 

لما بيّن الله سبحانه وتعالى الأصل الأول في الآيات السابقة في سورة العنكبوت وهو التوحيد، وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشّر والميعاد، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك بعضها عن بعض في الذكر الإلهي(1).

‌أ- {أَوَلَمْ يَرَوْا}:

وأشباهها، فإنها تفيد أن الشيء الذي سيأتي بعدها آية ظاهرة بيّنة دالة على عظمة الله عزّ وجل، وكأن الله عزّ وجل يدعوك إلى أن ترى، فهل رأيت؟ في {أَوَلَمْ يَرَوْا}: الهمزة هنا للاستفهام الإنكاري، أي الإنكار عدم رؤيتهم وتقدير الكلام: ألم ينظروا أي: أهل مكة وكفار قريش، ولم يروا أي: ولم يعلموا علماً جارياً مجرى الرؤية في الجلاء والظهور {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ}: أي يخلقهم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً، ويخلقهم من نطفة من غذاء هو ماء وتراب، وهذه القدر كافٍ في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن الإعادة مثل البدء: ألم يعلموا كيفية خلق الله ابتداء من مادة ومن غير مادة، أي: قد علموا، {ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: ثم هو يعيد الخلق، ويردّهم إلى الوجود في الآخرة عند البعث(2).

وحاصل المعنى في الآية الكريمة: أنَّ إبراهيم خليل الرّحمن - عليه السّلام -، أرشد قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، ثم أعطاهم السمع والبصر والأفئدة، وتصرفهم في الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك والذي بدأ هذا قادر على أن يعيد، بل هو أهون عليه كما قال في آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، أنتم قد علمتم ذلك فكيف تنكرون الإعادة وهي أهون عليه، والمعنى: ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء بنطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح ثم يخرجه إلى الدنيا، ثم يتوفاه بعد ذلك، وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد أولاً، فهو القادر على الإعادة(3).

‌ب- {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}:

وقد يقول قائل: أنا لم أشاهد نفسي كيف خُلقت؟ فكيف يأمرنا الله عزّ وجل بالنظر في بدء الخلق؟ إنّ الله عزّ وجل جعل نظام البشر على أساس التوالد، فإذا كنت غائباً عن نشأتك، فهذه نشأة ابنك أمامك، فأنت تعلم علم اليقين أن هذا الابن الذي أمامك كان حُويناً منويّاً وكان بُويضةً، ولُقِّحَت هذه البويضة، وتكاثرت ونَمَتْ، والتصقت بجدار الرحم، وجاءها الغذاء إلى أن أصبحت كائناً كاملاً في تسعة أشهر، ثم خرجت إلى الدنيا، وبدأت تنمو، فهو الآن يلعب ويضحك، ويتثاءب ويتكلم ويبتسم ويأكل، له فم، وله لسان، وله لسان مزمار، وله مريء وله معدة، وله أمعاء دقيقة، وأمعاء غليظة وزُغابات ماصّة، وله كبد وله صفراء، وله بنكرياس وأوردة وشرايين وقلب، ورئتان وكليتان، وقصبتان ودماغ، ومخ ومخيخ، وبصلة سيسائية، ونخاع شوكي، وفقرات ظهرية وله عظام بعضها ثابت وبعضها متحرك، وعضلات وشعر، وأظافر، وله قوام وله نَفْس(4).

ودقق النظر في ظاهرة النبات، فهي وحدها ظاهرة كافية كي تسجد لله سجود الطائعين الموقنين، فالبذرة التي تزرعها لها غلاف، ولها مخزون من المواد، ولها رشيم كائن حي، فإذا جاءته الرطوبة وجاءه الغذاء وجاءه الضوء، ينمو سويقاً وجذيراً ويصبح شجراً له صفات لا يعلمها إلا الله، فلك أن ترى عملية نمو النبات لتعلم كيف يُبدئ الله خلقه، فهذه البيضة التي تأكلها وتقول: أكلت اليوم بيضاً، لو بقيت تحت أمها لأصبحت حيواناً كاملاً فرخاً نسميه "صوصاً"، إذن من حوّل هذا السائل الأصفر والأبيض إلى كائن يتحرّك ويزقزق ويلوذ بأمه، ويكبر وينمو، ثم تأكل منه لحماً وتأكل منه طعاماً لذيذاً؟ الله عزّ وجل لم يبعدك عن وسائل الإيضاح، بل جعلها أمامك، وبثّها في كل مكان، فربّنا عزّ وجل يقول: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} ]الذاريات:20[، فكلمة {يُبْدِئُ} إما من الإبداء أي: الإظهار، أو من الابتداء، وكلاهما صحيح، فالله عزّ وجل يظهر لك قدرته وعظمته من معرفة خلقك، فأنت لا تعرف ماذا في أحشائك، في الإنسان أشياء معقدة(5).

وتقول بعض النظريات الحديثة أن للكبد خمسة آلاف وظيفة، أي: أنّ له دوراً خطيراً جداً، إنّه مخبر مركزي، فبإمكانه أن يحوّل المواد الشّحمية الدهنيّة إلى مواد سكريّة، وبإمكانه أن يحول المواد السكرية إلى شحميّة، وهذا ما يفعله الكبد بقدرة الله عزّ وجل، وهو يفرز هرمون التجلّط وهرمون التمييع، ومن إفراز هذين الهرمونين على نحو دقيق يكون الدم بهذا القوام المناسب، فلو أفرز الكبد هرمون التجلط زيادة على حدّه الدقيق؛ لأصبح الدم وَحَلاً في الأوعية، ولو أفرز الكبد هرمون التميُّع زيادة عن حدِّه لسال دمُّ الإنسان كلِّه من رُعاف واحد، ومن تعطّل كبده، لا يستطيع أن يعيش أكثر من ثلاث ساعات.

وإذا قرأت في الفلك، تقرأ في ظهور مجرّات جديدة وعن اختفاء مجرّات وعن اتساع بعض المجرات، وعن الثقوب السوداء في الفضاء الخارجي، فإذا أردت أن تطلّع تماماً، تجد بدءاً للخلق ثم إعادة للخلق(6).

وأما إعادة الخلق، فإن ربنا عزّ وجل في أكثر آيات الإيمان يذكر الإيمان باليوم الآخر مقترناً بالإيمان بالله؛ لأنك لن تستقيم على أمر الله إلا إذا أيقنت بوجود الله، وأيقنت بعلمه وأيقنت باليوم الآخر، فالله عزّ وجل أودع في هذه النفوس الشهوات وأعطاها قوى في الظاهر، فهذه القوى مع تلك الشهوات تندفع نحو مصالحها، فما الذي يُلجمها؟

يلجمها الخوف من الله والخوف من حسابه، وهذه المعرفة بالله عزّ وجل، واليقين بوقوف بين يدي الله عزّ وجل، ففي "المعجم الكبير" للطبري عن أم سلمة قالت: دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم وصيفة له، فأبطأت عليه فقال: لولا مخافة القَوَد يوم القيامة لأوجعتكِ بهذا السّواك(7).

إنّ اليوم الآخر له دليلان: دليل نقلي ودليل عقلي، فالنقلي ما جاء به القرآن الكريم، وأما الدليل العقلي فهو أنك من خلال الكون تعلم أن خالق الكون عظيم، أسماؤه حسنى، وصفاته فضلى، فلا يعقل أن يدع عباده هكذا، من دون حساب أو عقاب أو جزاء؛ لأنَّ هذا يتنافى مع عدالته وكماله، ففي الدنيا غني وفقير، وهناك قوي وضعيف، ومريض وصحيح، وهناك حاكم ومحكوم، فما الذي يلجم المؤمن عن الفتك والظلم؟ لو أن جميع الناس خافوا من الله تعالى لانتهت كل مشاكلهم، لكن هذا الذي يعتدي، وهذا الذي يأخذ ما ليس له ضعيف إيمانه، ولو أيقن يقيناً قطعيّاً أنه سيدفع الثمن باهظاً، وأنه لن يتفلت من عقاب الله عزّ وجل، لارتدع ولاستقام، فلا بُدّ من أن يقف الناس جميعاً لربِّ العالمين، ويعطي كل إنسان ما يستحق(8).

‌ج- {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}:

أيّ: بدء الخلق ثم إعادته يوم القيامة: {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، فالله عزّ وجل قرّب هذا من أذهاننا بأن الشيء إذا صنعته أول مرة، فإنك تجد فيه جهداً كبيراً، وفي المرة الثانية يكون أهون، وفي الثالثة أهون، فنحن بني البشر إذا أردنا أن نعيدَ صناعة الشيء مرات ومرات، فلا بُدّ من أن نستهله، ولله المثل الأعلى، فالخالق على الله عزّ وجل ليس كذلك، إنما أمره كنْ فيكون، وعلمه قديم، وكل شيء عليه يسير، ولكن ربنا عزّ وجل يدعونا إلى التفكر في أصل الكون، أليس الله قد خلقه؟ إذ لا يصعب عليه بناءه مرةً ثانية(9).

فليس في خلق الله شيء عسير عليه سبحانه وتعالى، ولكنّه يقيس للبشر بمقاييسهم، فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم وإلا فالبدء كالإعادة، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله، وإنما هو توجه الإرادة وكلمة: كن فيكون(10).

 

مراجع الحلقة الخامسة والثلاثون بعد المائة:

(1) تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، (21/364).

(2) المرجع نفسه، (21/364).

(3) تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، (21/265).

(4) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (9/205).

(5) المرجع نفسه، (9/205).

(6) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (9/206).

(7) المرجع نفسه، (9/207).

(8) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (9/207).

(9) المرجع نفسه، النابلسي، (9/207).

(10) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2729).

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022