تأملات في الآية الكريمة:
{وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 133
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1444ه / نوفمبر 2022م
أ- {وَاعْبُدُوهُ}:
إنَّ عبادة الله تعالى - التي هي ثمرة معرفته وتوحيده- سبب واسع من أسباب الرزق بنص قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} ]الذاريات:56-58[، فالله جلّ جلاله لم يكلف خلقه رزق أنفسهم أو رزق غيرهم، ولكنه كلّفهم عبادته وتوحيده وهو سبحانه متكفل برزقهم(1).
وليس معنى العبادة فقط أداء شعائر الإسلام الظاهرة، ولكنه بالإضافة إلى ذلك تحقيق معنى العبودية الشامل لله تعالى في شتى مظاهر الحياة، إذ ليس في الكون كلّه إلا إله يُعبد وما سواه عبيد له، فيجب له كمال الذلّ والخضوع مع كمال الحبّ، ومن شأن ذلك أن يفجر في نفس العابد الطاقات والإمكانات المبدعة، فيتحرك نحو أهدافه بخطى ثابتة غير مضطربة، متلمساً أسباب الرزق مستعيناً بالله تعالى، وذلك مدعاة لتيسير الرزق بإذنه، فقد أمر الله سبحانه وتعالى العبد بأمر وضَمن له ضماناً، فإن قام بأمره بالنصح والصدق والإخلاص والاجتهاد، قام الله سبحانه له بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر، وقضاء الحوائج، فإنه سبحانه ضَمن الرزق لمن عبده، والنصر لمن توكل عليه واستنصر به، والكفاية لمن كان هو همّه ومراده(2).
ب- {وَاشْكُرُوا لَهُ}:
اشكروا الله أن خلقكم وأعطاكم الأموال والبنين والزوجات، والأهل والبيت، وأعطاكم هذه الصَحة وأعطاكم الحواس، وأنعم عليكم بنعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد وسخر لكم ما في الكون جميعاً ومنحكم نعمة العقل، وفطركم فطرة عالية، وأعطاكم حرية الاختيار، ألا ينبغي أن تشكروه؟ (3)
إنَّ نعمة الرزق يجب أن تُقابل بالشكر لله تعالى واهب الرزق ومسخّره، وذلك يستلزم الإقرار له بالعبادة وحده لا شريك له(4).
والشكر اصطلاحاً: هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عباده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبة وعلى جوارحه انقياداً وطاعة(5).
ومن تأمل في سيرة إبراهيم - عليه السّلام - يجد تفانيه في طاعة الله قولاً وعملاً، بغية إظهار شكره لنعم الله عليه، وكونه عزّ وجل قد اختصّه بالنبوّة والرسالة واصطفاه بالخلّة {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، والشكر لله من أسباب زيادة الرزق، فمن شكر فقد حرس النعمة عليه بالبقاء، وكسب به المزيد والنماء، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ]إبراهيم:7[.
والشكر بهذا باب الزيادة الواسع ومقام الشكر وشأنه عظيم عند الله عزّ وجل، ولذلك لما عرف إبليس قدر مقام الشكر وأنه من أجلِّ المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه، قال تعالى: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ]الأعراف:17[، ولعظم مقام الشكر، فقد أخبر الله تعالى أنه إنما يعبده من شكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته، قال سبحانه وتعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ]البقرة:172[(6).
وقابل القرآن الكريم بين الشكر والكفر، قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} ]النمل:40[، وقال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ]الزمر:7[، ومما يشاهد في حياة الناس أن من كثُر شكره لله تعالى- مقالاً وحالاً وفعلاً- كثُر عطاء الله تعالى له، والشكر سبب المزيد، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ]إبراهيم:7[، ويسمّونه "الحافظ"؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب لأنّه يجلب النعم المفقودة(7).
ج- {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}:
أي: يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله( إن كان خيراً فعبد الله واتقاه وشكره، أو شراً .... بعبادتهم غير الله عزّ وجل وفي تحذير إبراهيم - عليه السّلام - لقومه في قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تحذيراً لهم ودعوة صادقة للاستعداد لتلك الرجعة إلى خالقهم للحساب والجزاء ومؤكداً لهم ما ذكره ربنا في كتابه وحتمية رجوع الناس إلى الله عزّ وجل.
مراجع الحلقة الثالثة والثلاثون بعد المائة:
( ) الرزق في القرآن الكريم، د. سليمان الصادق البيرة، ص93.
(2) الرزق في القرآن الكريم، د. سليمان الصادق البيرة، ص95.
(3) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (9/203).
(4) الرزق في القرآن الكريم، سليمان الصادق البيرة، ص174.
(5) تهذيب مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، ط1، 1997م، (2/611).
(6) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ابن قيم الجوزية، ص 117.
(7) المرجع نفسه، ص120.
( تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (6/279-280).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي