الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)

وقعة الحرّة 63 ه: التفاصيل والعبر

الحلقة: التاسعة والثمانون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020

إن ثورة أهل المدينة ومعارضتهم للحكم الأموي وخلافة يزيد بن معاوية ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير التي بدأها في مكة، ثم إن قرب فترة يزيد بن معاوية (60 هـ) بالخلافة الراشدة جعل أبناء الصحابة أكثر شوقاً لإعادة الشورى وتمكينها بين الناس، وعندما قتل الحسين رضي الله عنه بتلك الصورة الشنيعة ومعه إخوته وأبناء عمه على يد عبيد الله بن زياد؛ أحسَّ الكثير من أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأت تمارسه الدولة، الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير رضي الله عنهما، ورفعه شعار الشورى، في الوقت الذي لم يحاكم يزيد عبيد الله بن زياد كأحد المسئولين المباشرين عن الجريمة النكراء التي لحقت بالحسين وأهله في كربلاء واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد من قبل ابن عمه يزيد بن معاوية .
ومما لا شك فيه أن مقتل الحسين ومن معه بتلك الصورة قد أهاج الناس جميعاً، وولَّد لديهم شعوراً بالحزن والأسى العميق على فقدانه بتلك الطريقة البشعة .
أولاً: وفد المدينة يزور يزيد بدمشق:
أراد والي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان أن يثبت ولاء أهل المدينة ليزيد، فاختار منها وفداً وأرسلهم إلى دمشق، وهناك استقبلهم يزيد استقبالاً حسناً، فأكرم وفادتهم، وأحسن جوائزهم وأجزل عطاءهم وكان في وفد المدينة عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، وبعد أن أخذوا جوائزهم انصرفوا إلى
المدينة، وهناك عابوا يزيد وشتموه، وأظهروا العداء له، وخلعوه ، وأخرج أهل المدينة عامل يزيد عثمان بن محمد من المدينة كما أخرجوا مروان بن الحكم وسائر بني أمية، وبلغ الأمر يزيد، وعلم بما كان من أهل المدينة من خلعه، والميل إلى ابن الزبير، فأعدَّ جيشاً لغزو المدينة أسند قيادته لمسلم بن عقبة المري .
ثانياً: موقف علماء أهل المدينة المعارضين للخروج:
1 ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
اعترض بعض علماء المدينة على خلع يزيد والخروج عليه، ولم يؤيدوا من قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة، وكان أغلب هذا الرأي من أهل العلم والفقه في الدين، وفي مقدمة هؤلاء العالم الجليل الإمام القدوة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ فقد اشتهر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه ، فعندما أراد عبد الله بن مطيع الفرار من المدينة تهرباً من البيعة ليزيد، وسمع ذلك عبد الله بن عمر خرج إليه حتى جاءه فقال له: أين تريد يا بن عم؟ فقال: لا أعطيهم طاعة أبداً. فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ لا تفعل فإني أشهد أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من مات ولا بيعة عليه مات ميتة جاهلية» .
وعندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت النبي ﷺ يقول: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة» وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه . فقد عارض ابن عمر من خرج من أهل المدينة لسببين:
الأول: نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضا واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسين رضي الله عنه، حيث كان موقفه واضحاً منذ البداية، ولم يعط البيعة، وذلك عند ابن عمر خيانة وغدر، ويتضح ذلك في قوله لعبد الله بن مطيع: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» . وأوجب على أهله الوفاء بالبيعة مذكراً لهم بقول رسول الله ﷺ: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة». وإنا قد بايعنا هذا الرجل، ولا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله ورسوله، ثم ينصب له القتال .
الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم، وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة كمكة والمدينة، ولقد استدل ابن حجر بموقف ابن عمر السابق والأحاديث التي استشهد بها على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق .
والواقع أن موقف ابن عمر لا يدل على جواز بيعة رئيس الدولة الفاسق الظالم، ولا على تحريم خلعه بسبب فسقه وظلمه، وإنما يدل على تحريم الغدر بكل أشكاله، وفي جميع مواضعه، بما فيها غدر الأمة برئيس الدولة الذي اختارته وبايعته ، وكأن لسان حال ابن عمر يقول: إذا كنتم تعلمون من يزيد الفسق والظلم فلماذا بايعتموه في أول الأمر وجعلتموني أبايعه؟! لأن ابن عمر لم يبايع حتى بايع أهل المدينة ـ جميعهم ـ أما وقد بايعتموه فيلزمكم الوفاء بالبيعة.
وكان ابن عمر يشك في أقوالهم عن فسق يزيد، ولم يكن وحده في هذا الشك، بل كان محمد ابن الحنفية ينكر عليهم اتهام يزيد بترك الصلوات وشرب الخمر ، ولعل ذلك هو ورع ابن عمر في أن يتهم أحداً في دينه ما لم يبلغ عنده ذلك الأمر مرحلة اليقين، ومع ذلك فإنه ـ مع بقائه على بيعة يزيد ـ اعتزل القتال ولم يشارك أياً من الطرفين ، فهذا موقف شيخ الصحابة في عصره، وأورع الناس وأزهدهم وأفقههم في دين الله، وقد شهد له النبي ﷺ بالصلاح والتقوى . وقالت عنه عائشة: ما رأيت ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر ، وقال عنه سعيد بن المسيب: لو شهدت على أحد أنه من أهل الجنة لشهدت على ابن عمر ، وقال عنه علي بن الحسين: إن ابن عمر أزهد القوم وأصوب القوم ، وقال عنه مالك: أقام ابن عمر بعد النبي ﷺ ستين سنة يفتي الناس في الموسم، وكان من أئمة الدين .
2 ـ محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية):
حيث لم ير خروج أهل المدينة على يزيد، ولم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم، بل جادلهم في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد، ولما رجع وفد أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنُّعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ فأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال:{ إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ } [سورة الزخرف:86] ، ولست من أمركم في شيء قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعاً ولا متبوعاً. قالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا، قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله ! أمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذاً ما نصحت لله في عباده. قالوا: إذاً نكرهك. قال: إذاً امر الناس بتقوى الله ولا يُرضوا المخلوق بسخط الخالق.
ولما رأى محمد ابن الحنفية الأمور تسير في الاتجاه الذي لا يريده، وبدأ يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له من أهل المدينة حينما ترامى إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة، لذلك قرر ترك المدينة وتوجه إلى مكة ، وسار أهل بيت النبوة على هذا المنوال ولزموا الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد، فعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد ، وهو الذي قال فيه الزهري: كان أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة، وقال عنه: لم أدرك من ال البيت أفضل من علي بن الحسين ، وكذلك ابن عباس رضي الله عنهما وهو فقيه الأمة وحبرها وعالمها لم ينقل عنه تأييد لأهل المدينة، كما أنه لم يذكر عنه أنه نزع بيعة يزيد بن معاوية، فهؤلاء أفضل ال بيت النبوة في زمانهم، ومع ذلك لم يخرجوا مع أهل المدينة، ومسوغات الخروج على يزيد عندهم هي أكثر من غيرهم .
3 ـ النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه:
وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري، وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام، فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج، ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان لذلك، وقدم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الفتنة، وقال لهم: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام، فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله من أمرنا، فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين، قد هربت على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلفت هؤلاء المساكين يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم ! فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال .
4 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما:
فقد كان بالشام عندما عزم يزيد أن يبعث جيشاً إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر أن يتدخل في الأمر ليجنب أهل المدينة شر القتال، فكلم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتل بهم نفسك، وقد تجاوب معه يزيد وحين ذلك قال: فإني أبعث أول جيش وامرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب، ويجعلونها طريقاً، ولا يقاتلوهم؛ فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلاً لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده، ودعوهم يمضون عنكم ، وكان ردهم عليه: لا يدخلها علينا أبداً .
5 ـ سعيد بن المسيب رحمه الله:
وإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمراً من أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره، ولا يبرحه إلى الليل، والناس في قتالهم أيام الحرة .
ومن كل ما سبق ندرك أن أهل المدينة انقسموا تجاه البيعة ليزيد والدخول في طاعته إلى قسمين: القسم الأول منهم تزعمه عدد ممّن دفعه الحماس والغيرة على الدين إلى خلع يزيد ولقد اشترك بعض الفقهاء في موقعة الحرة، وانضم إلى أهل المدينة وخلع يزيد، وقاتل الجيش الأموي، ومن أبرزهم محمد بن عمرو بن حزم ، وهذا يعطي لحركة أهل المدينة خصوصية الارتكاز على المرجعية الشرعية للفقهاء في مقاومة حكم يزيد بن معاوية، ولقد اعتمدت ثورة أهل المدينة على فتوى هؤلاء العلماء، ومن قبلهم الحسين بن علي في وجوب مقاومة المنكر، ويتضح ذلك في خطاب عبد الله بن حنظلة حين قال: يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء ، وقد شارك في ثورة أهل المدينة عدد من صغار الصحابةهم: عبد الله بن زيد، وعبد الرحمن بن أزهر، وعبد الله بن حنظلة ، إلا أن معظم الصحابة ممن عاش إلى وقعة الحرة لم يشتركوا فيها، وحاولوا إقناع الثائرين بعدم خلع يزيد والخروج على حكمه ومع أن الأسس الشرعية، التي قامت عليها حركة أهل المدينة، وفتاويهم في الخروج على يزيد هي نفس الأسس التي بنى عليها الحسين موقفه، وهي: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على علماء الأمة وقادتها، وأن بني أمية قد تجاوزوا في حكمهم حدود الشريعة، سواء على الصعيد السياسي وطريقة الحكم كالانفراد بالسلطة وغياب الشورى، والاستبداد.. أو على الصعيد الشخصي، كانعدام الكفاءة والعدالة في شخص يزيد، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً من الناحية الشرعية في الأصل الذي بنى عليه الحسين فتواه ومن ثم اتخذ قراره في مقاومة يزيد، فالحسين لم يعطِ البيعة ليزيد منذ البداية، وعلى ذلك فإنه كان يرى أنه يحق له ـ من هذا المنطق ـ حرية التصرف في مقاومة الحكم الأموي، بينما نجد أن أهل المدينة قد أعطوا البيعة ليزيد، ومن بعد ذلك رأوا أنهم يجوز لهم نقض البيعة وخلع يزيد نظراً لعدم كفاءته وصلاحه للحكم، فأضافوا بذلك بعداً جديداً إلى فتوى الحسين، وهي أنه يجوز خلع الحاكم المسلم الذي يعتقد بفساده وفسوقه، وهو أمر خالفهم فيه بقية الصحابة، أي: القسم الثاني من أهل المدينة، ولعل ذلك هو السبب الرئيس الذي جعل فقهاء المدينة من الصحابة ينددون بقوة بخروج أهل المدينة؛ فهم يرون أن نقض البيعة لا يجوز، وأن فسوق الحاكم لا يوجب عليه الخروج ، يضاف إلى ذلك خوف كثير من فقهاء ومفتي الصحابة ممن حضر موقعة الحرة على أهل المدينة من القتل، والخوف على انتهاك قدسية مدينة رسول الله ﷺ، وقد وقع ذلك بالفعل، ومع ذلك فإن جميع الصحابة وفقهاء المسلمين لم يرضوا عن تصرف يزيد وقتله أهل الحرة واستباحته المدينة ، بل إن ابن تيمية يعتبر هذا التصرف من كبائر الذنوب التي اقترفها يزيد .
ثالثاً: معركة الحرّة:
اشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصرون في دار مروان بن الحكم، فأراد أن يخلصهم من هذا الحصار قبل أن يُقتلوا أو يحل بهم مكروه ـ وكانوا ألف رجل ـ فعز عليه أن يقتل هؤلاء في سلطانه، دون أن يقدم لهم عوناً، فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة، وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله ﷺ وأغزو البيت ، ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي .
1 ـ وصية يزيد لمسلم:
اجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة، فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً، ثم اكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيراً، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، وأمر مسلماً إذا فرغ من المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني .
2 ـ مسلم يستعرض الجيش:
ركب مسلم بن عقبة فرسه واستعرض جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، فجعل على أهل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيس بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي، وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم جميعاً مسلم بن الوليد بن عقبة المرِّيّ الغطفاني .
وسار مسلم إلى المدينة فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، فاستوقفهم وسألهم عن الوضع في المدينة، فلم ينطقوا بجواب، وكان أهل المدينة قد أطلقوا حصارهم بعد أن أخذوا عليهم العهود والمواثيق ألاَّ يدلوا على عورة ولا يعاونوا عدواً، وطلب مسلم منهم أن يدلوه على ما وراءهم فلم يستجيبوا، فغضب مسلم منهم غضباً شديداً، فلم يبرد غضبه إلا عبد الملك بن مروان الذي دلَّه على الخطة التي يجب اتباعها في حرب المدينة، فأشار إليه بأن يأتيها من جهتها الشرقية، ويلحق في الجنوب منها، ويواجه أهل المدينة في مكان يسمى الحرَّة، وتأتي الشمس أمام جيش الشام فتلمع خوذهم وسلاحهم فيرهبون عدوهم، ويكون لهم السيطرة من الوجهة الحربية .
3 ـ بدء المعركة:
وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر ذي الحجة 63 هـ وقعت المعركة المشؤومة، فوجه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، وحمل عبد الله بن حنظلة الغسيل على خيل الشام، فانكشفت الخيل، وانهزموا حتى انتهوا إلى مسلم، فنهض مسلم بمن معه وقاتلوا قتالاً شديداً، وانكشف أهل المدينة من كل جانب، وجاء الفضل بن عباس بن ربيعة إلى ابن الغسيل فقاتل معه، وطلب منه أن يجمع الفرسان ليقاتلوا معه وكان قد عزم على الوصول إلى مسلم بن عقبة ليقتله، فأمر ابن الغسيل أن يجتمع الفرسان حول الفضل، وحمل الفضل بهم على أهل الشام فانفرجوا وجثث الرجال أمامه على الركب، ومضى نحو راية مسلم فقتل صاحبها وهو يظنه مسلماً ، وكان الذي قتله الفضل غلاماً لمسلم اسمه رومي، وأخذ مسلم الراية ونادى في جيشه يحضهم على القتال، وأمر أحد قادته أن ينضحوا ابن الغسيل بالنبل، ونادى مسلم: يا أهل الشام، أهذا هو قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم، وأن يُعزّوا به نصر إمامهم، قبَّح الله قتالكم منذ اليوم، ما أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي، أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، ومشى برايته، وشدت الرجال أمام الراية، وصرع الفضل بن عباس بن ربيعة وما بينه وبين أطناب مسلم إلا عشرة أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف، وإبراهيم بن نعيم العدوي في رجال من أهل المدينة كثير .
ثم أن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله بن حنظلة الغسيل ورجاله حتى دنوا منه، وركب مسلم بن عقبة فرساً له، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول: يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها وأنسابها، ولا أكثرها عدداً، ولا أوسعها بلداً، ولم يخصكم الله بالذي خصكم به من النصر على عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيَّروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة، يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والظفر وأمر مسلم أجدر رماته أن يصوب رميه نحو ابن الغسيل، فقال ابن الغسيل: علامَ تستهدنون لهم؟ من أراد التعجل فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال: الغدوُّ إلى ربكم. فوالله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين، فنهض القوم واقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه أمامه واحداً بعد واحد حتى قتلوا بين يديه، وقتل هو وقتل معه أخوه .
4 ـ نهاية المعركة:
انتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير من القادة ووجوه الناس، ولم يخفِ مروان أسفه على ابن حنظلة، ومحمد بن عمرو بن حزم، وإبراهيم بن نعيم بن النحام، وغيرهم، بل كان يُثني عليهم ويذكرهم بأحسن صفاتهم التي اشتهروا بها ، وكان القتل ذريعاً في المدنيين وقد شبهتهم الرواية بنعام الشرد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه ، وقد قتل في هذه المعركة، عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: وقعت الفتنة الأولى ـ يعني مقتل عثمان ـ فلم تبقِ من أصحاب بدرٍ أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعني الحرَّة ـ فلم تبقِ من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طبّاخ .
ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة، ثم قال: فجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمئة رجل وستة رجال ، وقد تابعه على ذلك أبو العرب ، والأتابكي ، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك قال فيها: إن قتلى الحرَّة سبعمئة رجل من حملة القران، وقال الراوي: وحسبت أنّه قال: وكان معهم ثلاثة أو أربعة من أصحاب رسول الله ﷺ ورواية مالك أقرب إلى الصحة من الذي ذكر خليفة .
5 ـ المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين:
ومن الغريب تلك المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين؛ فمثلاً هناك رواية الواقدي والتي أخذ بها غالب المتقدمين والمتأخرين، قال الواقدي: عن عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم بلغ القتلى يوم الحرَّة؟ قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس فسبعمئة، وسائر ذلك عشرة الاف، وأصيب بها نساء وصبيان بالقتل . والسند عن الواقدي؛ وهو متروك، ثم إنه عورض بسند أصح منه، وهي رواية مالك، فتعتبر رواية الواقدي رواية منكرة لا يعتمد عليها في تقدير عدد القتلى ، ولقد أنكر ابن تيمية صحة ما ذكر الواقدي، واستبعد أن يصل العدد إلى هذا الحد .

6 ـ نهب المدينة:
لقد اشتهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام من شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا، وذلك لأن معركة الحرّة كانت لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة، وتعتبر رواية نافع مولى ابن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الانتهاب؛ فقد قال: .. وظفر ـ مسلم بن عقبة ـ بأهل المدينة وقتلوا، وانتهبت المدينة ثلاثاً وقد وردت لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، كما ورد على لسان عبد الله بن يزيد بن الشخير حين قال: ولما استبيحت المدينة ـ يعني في معركة الحرة ـ دخل أبو سعيد الخدري غاراً ، ومن هنا يعلم أن الاستباحة والنهب جاءت بمعنى واحد؛ حيث جاءت هاتان اللفظتان في غالب المصادر المتقدمة .
وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمَّله الإمام أحمد مسؤولية انتهاب المدينة، فعندما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد، قال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها . وقال ابن تيمية: فبعث إليهم ـ أي أهل المدينة ـ جيشاً، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا ، وذهب إلى ذلك ابن حجر .
ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب من المدينة والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقد هرب من المدينة ودخل غاراً والسيف في عنقه، ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف، وقال: بُؤ بإثمي وإثمك، قال: أنت أبو سعيد الخدري ؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي، فخرج . وقد ذكر الواقدي أنّ أهل الشام نتفوا لحيته انتقاماً منه، ولكن هذا لم يرد من طريق صحيحة . ولكن الشيء الذي يجب التنبه إليه هو أن النهب لم يشمل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيره من الذين لم يقفوا بجانب المعارضين، وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال وتعرف للمعارضة للحكم الأموي .
لقد أخطأ يزيد خطأ فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا خطأ كبير، فإنه وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه ودوام أيامه، فعاقبه الله بنقيض قصده، فقصمه الله قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر ، قال رسول الله ﷺ: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء». ومن الأحاديث التي تدل على شناعة جريمة إخافة أهل المدينة، وتبين سوء عاقبة فاعلها ؛ قوله ﷺ: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً» .
7 ـ ما قيل حول انتهاك الأعراض:
لم نجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي ألفت في الفتن ، وكذلك لم نجد في المصدرين التاريخيين المهمين عن هذه الفترة وهما (الطبري والبلاذري) أية إشارة لوقوع شيء من ذلك، وهما قد اعتمدا على روايات الأخباريين المشهورين؛ مثل: عوانة بن الحكم، وأبي مخنف الشيعي وغيرهما ، وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض: المدائني المتوفى سنة 225 هـ؛ حيث قال المدائني: عن أبي قرة عن هشام بن حسان قال: وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج، ويعتبر ابن الجوزي هو أول من أورد هذا الخبر في تاريخه ، وفي رسالته الخاصة التي ألفها في الطعن على يزيد بن معاوية وإظهار مثالبه ، وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة المتوفى في القرن العاشر الهجري .
ويبدو أن الطبري، والبلاذري، وخليفة بن خياط وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم، ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة، وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء ، ومن الجدير بالذكر أن كل من أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط ، وكلاهما لا تصح ولا تثبت، وقد ذكر العصامي فرية لم يسبق إليها؛ حيث قال: وافتض فيها ألف عذراء، وإن مفتضها فعل ذلك أمام الوجه الشريف، والتمس ما يمسح به الدم فلم يجد، ففتح مصحفاً قريباً منه، ثم أخذ من أوراقه ورقة فمسح بها، نعوذ بالله ما هذا إلا صريح الكفر وأنتنه .
وقد أطلق العنان بعض الكتّاب لرغباتهم وأهوائهم، ولم يستندوا إلى أي دليل، والروايـات المتعلقة بالاغتصـاب لا يمكـن الاعتمـاد عليها ، ثـم إن القرائـن المصـاحبة لمعركة الحرّة تنفي وجود أي نوع من الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكـرت انتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض .
إن روايات انتهاك أعراض نساء المدينة لا أساس لها من الصحة، وإنها روايات جاءت متأخرة، وبدافع حزبي بغيض، يتخذ من الكره والتعصب ضد التاريخ الأموي دافعاً له، وتهدف إلى إظهار جيش الشام، الذي يمثل الجيش الأموي جيشاً بربرياً لا يستند لأسس دينية أو عقائدية أو أخلاقيـة، وهـذا الاتهام لا يقصد بـه اتهام الجيش الأموي فقط، بل إنَّ الخطورة التي يحملهـا هذا الاتهام تتعدى إلى ما هو أعظم من مجرد اتهام الجيش الأموي، إلى اتهام الجيش الإسلامي الذي فتح أصقاعاً شاسعة في تلك الفترة ، وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك؛ مثل: د.نبيه عاقل ، ود.العرينان .
ود. العقيلي ، وكذلك فلهاوزن ، وقام الشيباني بدراسة عميقة حول الموضوع، وأثبت بطلان هذه الأكاذيب .
8 ـ أخذ البيعة من أهل المدينة ليزيد بن معاوية:
تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة من المدنيين من أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبين أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، فهناك رواية مجملة تفيد بأن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، وذلك بعد انتهاء معركة الحرّة، وتضيف الرواية: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأموالهم وأهلهم ، وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة من أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيد ليزيد في طاعة الله ومعصيته. وهذه الروايات أسانيدها ضعيفة جداً، ثم إن متونها يكتنفها الغموض، فليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم من الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟.
والذي يبدو من خلال مجمل الروايات: أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت من جميع الناس ، وحتى إن علي بن الحسين قد أتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي، مما يدل على أن أهل المدينة ـ الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد ـ كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة ، ولقد وردت روايات أخرى تفصل وتبين هذه البيعة، وتجعل هذه البيعة لفئة مخصوصة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة ومحاولته الخلاص إلى قتلهم بتلك البيعة ، يقول الدكتور يوسف العش: وبعد انتهاء معركة الحرّة أحضر مسلم مدبري الفتن واستعرضهم، وطلب إليهم أن يبايعوه على أنّهم خول ليزيد، ويحكم في أهلهم ودمائهم وأموالهم ما يشاء، فلم يقبلوا بأن يبايعوا هذه البيعة فقتلهم، وكان يريد أن يقضي على فتنتهم بالصَّغار، والحط من منزلتهم والتحقير من شأنهم، بحيث يعتبرون عبيداً، هم وما يملكون . وهذا انحراف عظيم عن شرع الله تعالى، ودليل على عسف الدولة وظلمها وجبروتها وقسوتها وتجاوزها الحدود المعقولة والمنقولة بسبب غضبها وحنقها على أهل المدينة.
9 ـ وفاة مسلم بن عقبة (64 هـ):
نفذ مسلم وصية يزيد بحذافيرها، فلم يفاجأى أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذَّرهم، ولما مضت الثلاث، حاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبُّوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلماً تروَّى واستمر في حصار المدينة المحرمة، ولكن غلبه حبه لسفك الدماء، فدخل المعركة وأنزل بأهل المدينة روعاً عظيماً، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وشتت شملهم ولم ينج منهم إلا أسير أو هارب إلى مكة لينضم إلى ابن الزبير، وقد أسرف مسلم في قتل المسلمين حتى بعد انتهاء المعركة فقتل رجالاً خرجوا من المعركة سالمين، ولم يكن له ليقتلهم وقد انتهت المعركة؛ واستسلمت المدينة، ولكن غلب عليه طبعه، وجرى في عروقه دم الشر الذي فطر عليه، فكان يقتل الرجل لمجرد أن يقول: إنه يبايع على كتاب الله وسنة رسوله، أو يبايع على سنة أبي بكر وعمر، وبالطبع لم يكن هذا أبداً مبرراً لسفك دماء وإزهاق أرواح، ولكنه الظلم والعسف والتجبر والطغيان.
وفي أول المحرم من عام 64 هـ بعد فراغ مسلم من حرب المدينة ـ سار إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش ، بعث إلى رؤوس الأجناد، فجمعهم فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني، ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت. ثم دعا به فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله أحب إليّ من قتلي أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الاخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقيٌّ. ثم مات قبحه الله ودفن بالمُشلل .
انظر إلى شدة جهله وحماقته، وكيف كان يعتقد أنه يتقرب بقتل هؤلاء إلى الله، وأنه يزداد بقتلهم قربى منه ـ سبحانه ـ، والناظر في دعائه يستشعر الأسباب التي جعلت مسلماً يدير المعركة بشراسة، ويسرف في دماء المسلمين من غير وازع ولا رادع؛ فقد كان مسلم يعتقد أن قتل أهل المدينة قربى إلى الله، فأسرف في القتلى، وكان يؤمن بأن قتلهم هو السبيل إلى الجنة، فأمعن في سفك الدماء، ولو أن الأحمق الجاهل الذي كان حريصاً أشد الحرص على طاعة أمير المؤمنين ولم يحرص قط على طاعة الله، وكان يكره معصية أمير المؤمنين عند الموت، بقدر ما كان يكره طاعة الله في عباده، لو أنه فقه أن زوال الدنيا أهون عند الله من سفك دم امرأى مسلم، ولو أنه علم أن ما فعله أهل المدينة لا يبيح دماءهم ولا تستباح أموالهم، لو أنه علم ذلك لكان يكفيه من إدارة المعركة القدر الذي يخضع الناس ليزيد .
10 ـ كيف استقبل يزيد خبر موقعة الحرّة؟:
ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: وا قوْماه، ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال: الطعام والأعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته. وهذا خلاف ما ذكره كذبة ـ الشيعة ـ عنه من أنه شمت بهم وتشفّى بقتلهم ، وأنه أنشد من شعر ابن الزِّبَعْرَى:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا
جزِع الخزرجِ من وقع الأَسَلْ

حين حَكَّت بقُباء بَرْكَها
واستحرَّ القتلُ في عبدِ الأَشَلْ

وقدْ قتلنا الضِّعفَ من أشرافِهم
وعَدَلْنا ميلَ بدرٍ فاعتدَلْ

وقد زاد بعض كذبة الشيعة فيها:
لعبتْ هاشمُ بالملكِ فلا
مَلَكٌ جاءَ ولا وحيٌ نَزَلْ

قال ابن كثير: فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاَّعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليُشنِّع عليه به وعلى ملوك المسلمين ، وقال ابن تيمية على أبيات الشعر: ويعلم بطلانه كل عاقل.
لقد وقع يزيد في خطأ مروّع، لا تهون منه الاعتذارات والمواساة، وهو الأمر باستباحة المدينة للمحاربين ثلاثة أيام ينهبون ويسرقون، مما أدى إلى فساد خطير وشر مستطير، وفتح على يزيد باباً أدى إلى تشويه سمعته، وبغض المسلمين في خلافته، وبخاصة أن المسلمين لم ينسوا بعدُ مقتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ حيث لم تجفَّ دماؤه على ثرى كربلاء .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022