الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

جهاد الصِّدِّيق لأهل الردَّة...

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة العشرون

 

أولاً: الردَّة اصطلاحاً وبعض الآيات الَّتي حذَّرت من الردَّة:

1ـ الردَّة اصطلاحاً:

عرَّف النَّوويُّ الردَّة بأنها: قطع الإِسلام بنيَّةٍ، أو قول كفرٍ، أو فعل سواءٌ قاله استهزاءً، أو عناداً، أو اعتقاداً، فمن نفى الصَّانع، أو الرُّسل، أو كذَّب رسولاً، أو حلَّل محرَّماً بالإِجماع كالزِّنى وعكسه، أو نفى وجوب مجمعٍ عليه، أو عكسه، أو عزم على الكفر، أو تردَّد فيه؛ كَفَرَ. وعرَّفها عليس المالكيُّ: بأنَّها كفر المسلم بقولٍ صريحٍ، أو لفظٍ يقتديه، أو بفعلٍ يتضمَّنه.

وعرَّف ابن حزمٍ الظَّاهريُّ(المرتدَّ) بأنَّه: كلُّ من صحَّ عنه: أنَّه كان مسلماً متبرئاً من كلِّ دينٍ حاشا دين الإِسلام، ثُمَّ ثبت عنه: أنَّه ارتدَّ عن الإِسلام، وخرج إِلى دينٍ كتابيٍّ، أو غير كتابيٍّ، أو إِلى غير دينٍ.

وعرَّفه عثمان الحنبليُّ: بأنَّه لغةً: الرَّاجع . قال تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، وشرعاً: من أتى بما يوجب الكفر بعد إِسلامه.

ومعنى هذا: أنَّ المرتدَّ هو كلُّ من أنكر معلوماً من الدِّين بالضَّرورة، كالصَّلاة، والزَّكاة، والنُّبوَّة، وموالاة المؤمنين، أو أتى بقولٍ، أو فعلٍ لا يحتمل تأويلاً غير الكفر.

2ـ بعض الآيات التي أشارت إلى المرتدين:

أطلق الله ـ سبحانه، وتعالى ـ على المرتدِّين عن دينه عباراتٍ تشير إِلى هذا المرتكب الوبيء الَّذي تحولوا إِليه، منها الردَّة على الأعقاب، أو على الأدبار، والانقلاب بالخسران، وطمس الوجوه، وردُّ الأيدي في الأفواه، والارتياب، والتردُّد، واسوداد الوجوه.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *} [آل عمران: 149].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً *} [النساء: 47].

وجاء في تفسير ابن كثير: وطمسها: أن تعمى، وقوله: فنردَّها على أدبارها: أي: نجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنَّكال، وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في صرفهم عن الحقِّ، وردِّهم إِلى الباطل، ورجوعهم عن المحجَّة البيضاء إِلى سبيل الضَّلالة يُهرعون، ويمشون القهقري على أدبارهم.

وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *} [آل عمران: 106].

نقل القرطبيُّ فيها جملة اراءٍ، منها رأي قتادة: أنَّها في المرتدِّين، كما نقل حديثاً لأبي هريرة وقال عنه: يستشهد به بأنَّ الآية في الردَّة؛ وهو: «يرد على الحوض يوم القيامة رهطٌ من أصحابي، فيُجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إِنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إِنَّهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقري ».

وفي روايةٍ أخرى لهذا الحديث: عن ابن عباسٍ، قال: قال رسول الله(ﷺ): «يجاء برجالٍ من أمَّتي، فيؤخذ بهم ذات اليمين، فأقول: أصحابي! فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذ فارقتهم ».

ثانياً: أسباب الردَّة، وأصنافها:

إِنَّ الردَّة الَّتي قامت بها القبائل العربيَّة بعد وفاة رسول الله(ﷺ) لها أسبابٌ، منها: الصَّدمة بموت رسول الله(ﷺ)، ورِقَّة الدِّين، والسُّقم في فهم نصوصه، والحنين إِلى الجاهليَّة، ومقارفة موبقاتها، والتفلة من النِّظام، والخروج على السُّلطة الشَّرعيَّة، والعصبيَّة القبليَّة، والطَّمع في الملك، والتكسُّب بالدِّين، والشُّحُّ بالمال، والتَّحاسد، والمؤثِّرات الأجنبيَّة كدور اليهود، والنَّصارى، والمجوس، وسنتحدَّث عن كلِّ سببٍ بإِذن الله تعالى .

وأمَّا أصنافها؛ فمنهم من ترك الإِسلام جملةً وتفصيلاً، وعاد إِلى الوثنيَّة، وعبادة الأصنام. ومنهم من ادَّعى النُّبوَّة. ومنهم من دعا إِلى ترك الصَّلاة. ومنهم من يعترف بالإِسلام، ويقيم الصَّلاة، ولكنَّه امتنع عن أداء زكاته. ومنهم من شمِت بموت الرَّسول، وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهليَّة، ومنهم من تحيَّر، وتردَّد، وانتظر على من تكون الدَّبرة، وكلُّ ذلك وضَّحه علماء الفقه، والسِّير.

قال الخطَّابيُّ: إِنَّ أهل الردَّة كانوا صنفين: صنفاً ارتدُّوا عن الدِّين، ونابذوا الملَّة، وعادوا إِلى الكفر، وهذه الفرقة طائفتان: إِحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة، وغيرهم؛ الَّذين صدَّقوه على دعواه في النُّبوَّة، وأصحاب الأسود العنس، ومن كان من مستجيبي من أهل اليمن، وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرةٌ لنبوَّة سيدنا محمَّدٍ(ﷺ)، مدَّعية النُّبوَّة لغيره، والطائفة الأخرى ارتدُّوا عن الدِّين، وأنكروا الشَّرائع، وتركوا الصَّلاة، والزَّكاة، وغيرها من أمور الدِّين وعادوا إِلى ما كانوا عليه في الجاهليَّة، والصِّنف الآخر هم الذين فرَّقوا بين الصَّلاة، والزَّكاة، فأقرُّوا بالصَّلاة، وأنكروا فرض الزَّكاة، ووجوب أدائها إِلى الإِمام. . . وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزَّكاة من كان يسمح(بها) ولا يمنعها إِلا أنَّ رؤساءهم صدُّوهم عن ذلك، وقبضوا أيديهم على ذلك.

وقريبٌ من هذا التَّقسيم لأصناف المرتدِّين تقسيم القاضي عياض، غير أنَّهم عنده ثلاثةٌ: صنفٌ عادوا إِلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة، والأسود العنس، وكلٌّ منهما ادَّعى النُّبوَّة، وصنفٌ ثالثٌ استمرُّوا على الإِسلام، ولكنَّهم جحدوا الزَّكاة، وأولوا بأنَّها خاصَّةٌ بزمن النَّبيِّ(ﷺ).

وقسَّم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدِّين إِلى أربعة أصنافٍ: صنفٌ عادوا إِلى عبادة الأوثان، والأصنام، وصنفٌ اتَّبعوا المتنبِّئين الكذبة: الأسود العنس، ومسيلمةَ،

وسجاح، وصنفٌ أنكروا وجوب الزَّكاة، وجحدوها، وصنفٌ لم ينكروا وجوبها ولكنَّهم أبوا أن يدفعوها إِلى أبي بكرٍ.

ثالثاً: الردَّة أواخر عصر النُّبوَّة:

بدأت هذه الردَّة منذ العام التَّاسع للهجرة المسمَّى بعام الوفود، وهو العام الَّذي أسلمت فيه الجزيرة العربيَّة قيادها للرَّسول(ﷺ) ممثَّلةً بزعمائها الَّذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردَّة في هذه الأثناء لمَّا تستَعلِنْ بشكلٍ واسعٍ، حتَّى إِذا كان أواخر العام العاشر الهجري، وهو عام حجَّة الوداع الَّتي حجَّها رسول الله(ﷺ)، ونزل به وجعه الَّذي مات فيه، وتسامع بذلك النَّاس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرَّماد، وأخذت الأفاعي تطلُّ برؤوسها من جحورها، وتجرَّأ الَّذين في قلوبهم مرضٌ على الخروج، فوثب الأسود العنس باليمن، ومسيلمة الكذَّاب باليمامة، وطليحة الأسديُّ في بلاد قومه.

ولمَّا كان أخطر متمرِّدَيْن على الإِسلام، وهما الأسود العنس، ومسيلمة، وأنَّهما مصمِّمان ـ كما يبدو ـ على المضيِّ في طريق ردَّتهما قُدُماً دون أن يفكِّرا في الرُّجوع، وأنَّهما مشايعان بقوىً غفيرةٍ، وإمكانياتٍ وفيرةٍ؛ فقد أرى الله نبيَّه(ﷺ) من أمرهما ما تقرُّ به عينه، ومن ثمَّ ما تقرُّ به عيون أمَّته من بعده، فقد قال يوماً وهو يخطب النَّاس على منبره: «أيها الناس! إنِّي قد أريت ليلة القدر، ثمَّ أُنسيتها، ورأيت أنَّ في ذراعيَّ سوارين من ذهبٍ فكرهتهما، فنفختهما، فطارا، فأوَّلتهما هـذين الكذَّابَيْن: صاحب اليمن، وصاحب اليمامة ».

وقد فسَّر أهل العلم بالتَّعبير هذه الرؤيا على هذه الصُّورة، فقالوا: إِنَّ نفخه(ﷺ) لهما يدلُّ على أنَّهما يقتلان بريحه؛ لأنَّه لا يغزوهما بنفسه، وإِن وصفه لهما بأنَّهما من ذهبٍ دلالةٌ على كذبهما؛ لأن شأنهما زخرفٌ، وتمويهٌ، كما دلَّ لفظ السِّوارين على أنَّهما ملكان لأن الأساورة هم الملوك، ودلا بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتدُّ على المسلمين فترةً لكون السِّوار مضيقاً على الذِّراع.

وعبر الدُّكتور علي العتوم بقوله: . . . بأن طيرانهما بالنَّفخ دلالةٌ على ضعف كيدهما مهما تاخم، فشأنهما زَبَدٌ لا بدَّ أن يؤول إِلى جُفاءٍ، ما دام هذا الكيد مستمَداً من الشَّيطان، فهو واهنٌ لا محالة؛ إذ أقلُّ هجمةٍ مركَّزةٍ في سبيل الله تحيلهما أثراً بعد عَيْنٍ، وكونهما من ذهبٍ دلالةٌ على أنَّهما يقصدان من عملهما الدُّنيا، لأن الذَّهب رمزٌ لحطامها؛ الذي يسعى المغترُّون بها خلفه، وأنَّهما سواران إِشارةٌ إِلى محاولتهما الإِطاحة بكيان المسلمين عن طريق الإِحاطة بهم من كلِّ جانب تماماً، كما يحيط السِّوار بالمعصم.

رابعاً: موقف الصِّدِّيق من المرتدِّين:

لمَّا كانت الردَّة؛ قام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: الحمد لله الَّذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إنَّ الله بعث محمداً(ﷺ) والعلم شريدٌ، والإِسلام غريبٌ طريدٌ، قد رثَّ حبله، وخلِق ثوبه، وضلَّ أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب، فلا يعطيهم خيراً لخيرٍ عندهم، ولا يصرف عنهم شرّاً لشرٍّ عندهم، وقد غيَّروا كتابهم، وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون: أنَّهم في منعةٍ من الله؛ لا يعبدونه، ولا يدعونه، فأجهدهم عيشاً، وأظلَّهم ديناً، في ظلفٍ من الأرض مع ما فيه من السَّحاب، فختمهم الله بمحمَّد، وجعلهم الأمَّة الوسطى، ونصرهم بمن اتَّبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتَّى قبض الله نبيَّه، فركب منهم الشَّيطان مركبه، الذي أُنزل عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ *} [آل عمران: 144] .

إِنَّ مَنْ حولكم من العرب قد منعوا شاتهم، وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم ـ وإن رجعوا إليه ـ أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدَّم من بركة نبيِّكم، وقد وكَّلكم إلى المولى الكافي الَّذي وجده ضالاًّ فهداه، وعائلاً فأغناه: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].

واللهِ! لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتَّى ينجز الله وعدَه، ويوفي لنا عهدَه، ويُقتل مَنْ قُتل منا شهيداً من أهل الجنَّة، ويبقى مَنْ بقي منّا خليفته، وذرِّيته في أرضه، قضاء الله الحقُّ، وقوله الذي لا خلف له:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستحلفنهم فِي الأَرْضِ} [النور: 55] .

وقد أشار بعض الصَّحابة، ومنهم عمر على الصِّدِّيق بأن يترك مانعي الزَّكاة، وتألفهم حتَّى يتمكَّن الإِيمان من قلوبهم، ثمَّ هم بعد ذلك يزكُّون، فامتنع الصِّدِّيق عن ذلك، وأباه.

فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: لمَّا توفي رسول الله(ﷺ)، وكان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وكفر مَنْ كفر من العرب، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: كيف تقاتل النَّاس وقد قال رسول الله(ﷺ): « أمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا لا إِله إِلا الله، فمن قالها؛ فقد عصم منِّي ماله، ونفسه إِلا بحقِّه، وحسابُه على الله » . فقال: والله! لا قاتلن مَنْ فرَّق بين الصَّلاة والزَّكاة، فإِنَّ الزكاة حقُّ المال، والله! لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدُّونها إِلى رسول الله(ﷺ)؛ لقاتلتهم على منعها . وفي روايةٍ: والله! لو منعوني عِقالاً، كانوا يؤدُّونه إِلى رسول الله؛ لقاتلتهم على منعه . قال عمر: فوالله ما هو إِلا أن قد شرح الله صدر أبي بكرٍ، فعرفت: أنَّه الحقُّ، ثمَّ قال عمر بعد ذلك: والله! لقد رجح إِيمان أبي بكر بإِيمان هذه الأمَّة جميعاً في قتال أهل الردَّة.

وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر ـ وهو يناقشه ـ عن ناحية فقهيَّةٍ مهمَّةٍ أجلاها له، وكانت قد غابت عنه، وهي أنَّ جملةً جاءت في الحديث النَّبويِّ الشريف الَّذي احتجَّ به عمر هي الدَّليل على وجوب محاربة مَنْ منع الزَّكاة حتَّى وإِن نطق بالشَّهادتين، وهي قول النَّبيِّ(ﷺ): « فإِذا قالوها؛ عصموا منِّي دماءهم، وأموالهم إِلا بحقِّها ».

وفعلاً كان رأي أبي بكرٍ في حرب المرتدِّين رأياً ملهماً، وهو الرَّأي الَّذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإِسلام والمسلمين، وأيُّ موقفٍ غيره سيكون فيه الفشل، والضَّياع والهزيمة والرُّجوع إِلى الجاهلية، ولولا الله، ثمَّ هذا القرار الحاسم من أبي بكرٍ لتغيَّر وجه التاريخ، وتحوَّلت مسيرته، ورجعت عقارب السَّاعة إِلى الوراء، ولعادة الجاهليَّة تعيث في الأرض فساداً .

لقد تجلَّى فهمه الدَّقيق للإِسلام، وشدَّة غيرته على هذا الدِّين، وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبيِّه في الكلمة الَّتي فاض بها لسانُه، ونطق بها جنانه، وهي الكلمة الَّتي تساوي خطبةً بليغةً طويلةً، وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثيرٌ من قبائل العرب أن يدفعوا الزَّكاة إِلى بيت المال، أو منعوها مطلقاً، وأنكروا فرضيَّتها: قد انقطع الوحي، وتمَّ الدِّين، أينقص وأنا حيٌّ؟! وفي روايةٍ: قال عمر: فقلت: يا خليفة رسول الله تألَّفِ النَّاس، وارفق بهم . فقال لي: أجبَّارٌ في الجاهلية خوَّارٌ في الإِسلام، قد انقطع الوحي، وتمَّ الدِّين، أينقص وأنا حيٌّ؟!.

لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصَّحابة في حرب المرتدِّين، وما عزم على خوض الحرب إِلا بعد أن سمع وجهات النَّظر بوضوحٍ، إِلا أنَّه كان سريع القرار، حاسم الرأي، فلم يتردَّد لحظةً واحدةً بعد ظهور الصَّواب له، وعدم التردُّد كان سمةً بارزةً من سمات أبي بكرٍ ـ هذا الخليفة العظيم ـ في حياته كلِّها، ولقد اقتنع المسلمون بصحَّة رأيه، ورجعوا إلى قوله، واستصوبوه .

لقد كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أبعد الصَّحابة نظراً، وأحقَّهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه الطَّامَّة العظيمة، والمفاجأة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيِّب ـ رحمه الله ـ: وكان أفقههم ـ يعني: الصَّحابة ـ وأمثلهم رأياً.

إِنَّ أبا بكر كان أنفذ بصيرةً من جميع مَنْ حوله؛ لأنَّه فهم بإِيمانه الَّذي فاق إِيمانهم جميعاً: أنَّ الزَّكاة لا تنفصل عن الشَّهادتين، فمن أقرَّ لله بالوحدانيَّة لا بدَّ أن يقرَّ له بما يفرض من حقٍّ في ماله، الذي هو مال الله أصلاً، وأنَّ «لا إِله إِلا الله» بغير زكاةٍ لا وزن لها في حياة الشعوب، وأنَّ السَّيف يشرع دفاعاً عن أدائها تماماً، كما يشرع دفاعاً عن «لا إِله إِلا الله» تماماً، هذه كتلك. هذا هو الإِسلام وغير هذا ليس من الإِسلام، فقد توعَّد الله أولئك الَّذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} [البقرة: 85] .

كان موقف أبي بكرٍ رضي الله عنه الَّذي لا هوادة فيه، ولا مساومة فيه، ولا تنازل، موقفاً ملهماً من الله، يرجع إليه الفضل الأكبر ـ بعد الله تعالى ـ في سلامة هذا الدِّين، وبقائه على نقائه، وصفائه، وأصالته، وقد أقرَّ الجميع، وشهد التَّاريخ بأنَّ أبا بكرٍ قد وقف في مواجهة الردَّة الطَّاغية، ومحاولة نقض عرا الإِسلام عروةً عروةً، موقف الأنبياء والرُّسل في عصورهم، وهذه خلافة النُّبوَّة الَّتي أدَّى أبو بكر حقَّها، واستحقَّ بها ثناء المسلمين، ودعاءهم إِلى أن يرث الله الأرض، وأهلها.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022