الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

تنوع إستراتيجيات الصِّدِّيق العسكرية والهجوم الشامل على المرتدين..

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة :الثانية والعشرون

 

تعدَّدت وسائل، وطرق التَّصدِّي والمواجهة للمرتدِّين، فكان للثَّابتين دورٌ في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثَّابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم، ومنبِّهين إِلى خطورة ما هم مُقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به، وكانت الخطوة الأولى بالكلمة، ولم تكن الكلمة في يومٍ من الأيام هي أضعف المواقف، وإنَّما هي أقواها؛ لأنَّها تستتبع مواقف جادَّةً لتحديد مصداقيَّة الكلمة، وقد تؤدِّي الكلمة بصاحبها إلى الذَّبح من أجل الشَّهادة للكلمة الَّتي قالها، ففي كلِّ قبيلةٍ حصلت فيها ردَّةٌ كانت هناك بعض المواقفِ للَّذين انفعلت قلوبهم للحقِّ، وتغذَّت به، وعاشت عليه، هي الَّتي رأت باطل ما يفعله كلُّ قومٍ، ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذِّرون أقوامهم من سوء المصير؛ الَّذي ينتظرهم، فما كان من قومهم إِلاَّ أن وقفوا في وجوههم ساخرين مستهزئين، ثُمَّ تمادوا إلى مطاردتهم، وإِخراجهم، بل وقتلهم في بعض الأحيان، ونجح بعضهم بالكلمة كعديِّ بن حاتم مع قومه، والجارود مع أهل البحرين، وسترى تفاصيل ذلك بإذن الله .

وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحوَّلوا إلى تجمُّعاتٍ مسلمةٍ ثابتةٍ على إِسلامها، واتَّخذت لها الموقف المناسب ضدَّ أقوامهم المرتدِّين، وكثيرٌ من المواقف بدأت بالكلمة، ثمَّ انتهت إِلى العمل، كما حصل لمن ثبت من بني سليم، فقد حذَّرهم قومهم، فانقسموا إِلى قسمين: ثابتٍ، ومرتدٍّ.

فتجمَّع الثَّابتون وصاروا يجالدون قومهم المرتدِّين، وقام الأبناء في اليمن سرّاً بتدبير قتل الأسود العنس ـ كما سيأتي تفصيله ـ بعد أن كان موقفهم سلبياً في بطش الأسود العنس، ووقف مسعود، أو مسروق القيسيُّ ابن عابس الكنديِّ ينصح الأشعث بن قيس، ويدعوه لعدم الردَّة، ودخل بينهما حوارٌ طويلٌ وتحدٍّ متبادلٌ، وهكذا صارت بعض المواقف سبباً في إِرجاع قومهم عن الردَّة، أو في تسهيل مهمَّة جيوش الدَّولة الإسلاميَّة القادمة للقضاء على الردَّة.

لقد اعتمدت سياسة الصِّديق في القضاء على الردَّة على الله تعالى، ثمَّ على ركائز قويَّةٍ من القبائل، والزُّعماء، والأفراد الَّذين انبثُّوا في جميع أنحاء الجزيرة العربيَّة، وثبتوا على إِسلامهم، وقاموا بأدوارٍ هامَّةٍ ورئيسيَّةٍ في القضاء على فتنة الردَّة، ولقد أخطأ بعض الكتَّاب عندما تناول فتنة الردَّة بشيءٍ من التَّعميم، أو عدم الدِّقة، أو عدم الموضوعيَّة، أو سوء الفرض، أو النَّظرة الجزئيَّة .

إِنَّ من الحقائق الأساسيَّة حول هذه الفتنة: أنَّها لم تكن شاملةً لكلِّ النَّاس، كشمولها الجغرافيِّ، بل إِنَّ هناك قادةً، وقبائل، وجماعاتٍ، وأفراداً تمسَّكوا بدينهم في كلِّ منطقةٍ من المناطق الَّتي ظهرت فيها الردَّة.

ولقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بدراسةٍ عميقةٍ، وأجاب عن سؤالٍ طرحه، وهو: هل كانت الردَّة في عهد الخليفة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ شاملةً لكلِّ القبائل العربيَّة، والأفراد، والزُّعماء الذين كانوا مسلمين؟ أم أنَّ هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل، وبعض الزُّعماء، وبعض الأفراد في مناطق جغرافيةٍ مختلفةٍ؟

وبعد البحث قال: إِنَّ أوَّل حقيقةٍ تستخلص من المصادر التَّي أشرت إِليها سابقاً: هي أنَّني لم أجد ما يدلُّ على أنَّ القبائل، والزُّعماء، والأفراد، قد ارتدُّوا جميعاً عن الإِسلام، كما ذكر أولئك النَّفر الَّذين جعلناهم مثالاً، بل وجدت: أنَّ الدَّولة الإِسلاميَّة اعتمدت على قاعدةٍ صلبةٍ من الجماعات، والقبائل، والأفراد؛ الَّذين ثبتوا على الإِسلام، وانبثُّوا في جميع أنحاء الجزيرة، وكانوا سنداً قويّاً للإِسلام ودولته في قمع حركة المرتدِّين منهم.

المواجهة الرَّسميَّة من الدَّولة:

 1ـ وسيلة الإِحباط من الدَّاخل:

كان رسول الله(ﷺ) قد استعمل هذه الوسيلة، فقام بمراسلة وبعث الرُّسل إِلى قبائل المتنبِّئين؛ لتجميع الثَّابتين على الإِسلام، وليشكِّل بهم جماعةً تحارب الردَّة، وسار الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على نفس المنهج، وحاول أن يحجم، ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر المرتدِّين، وقام بالتَّوعية ضدَّها، والتخيل منها، وتنفير النَّاس عنها، واستطاع أن يتَّصل بالثابتين على الإِسلام، وجعل منهم رصيداً للجيوش المنظَّمة، فقد كان يعدُّ الأمَّة لمواجهةٍ منظَّمةٍ مع المرتدِّين بعد عودة جيش أسامة، فقد راسل الصِّدِّيق زعماء الردَّة، والثَّابتين على الإِسلام؛ ليحقِّق بعض الأهداف، ككسب الوقت حتَّى يرجع جيش أسامة، فكتب إِلى من كتب إِليهم رسول الله(ﷺ) باليمن، وغيرها، ليبذلوا جهدهم لدعوة الثَّابتين إِلى الإِسلام، وطلب من الثَّابتين التجمُّع في مناطق حدَّدها لهم حتَّى يأتيهم أمره، وكان هذا التَّرتيب بدايةً للخطَّة العسكرية القادمة.

وقد حالف التَّوفيق بعض الثَّابتين بالوصول إِلى المدينة ومعهم صدقاتهم مثل عديِّ بن حاتم الطَّائيِّ، والزبرقان بن بدر التَّميميِّ، وتمكن الثَّابتون من إِفشال حركة قيس بن مكشوحٍ المراديِّ، وبعض التَّجمُّعات القبليَّة في تهامة، وبلاد السَّراة، ونجران، وقد حقَّقت هذه الوسيلة بعض النتائج، منها:

أـ نجحت خطَّة الصِّدِّيق في تحقيق حملات التَّوعية، والدِّعاية، والتعضيد للمسلمين، والتخيل لقوى المرتدِّين؛ تمهيداً لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوافر لها الإِمكانات: وهي أداة الجيوش المنظَّمة.

ب ـ أنَّها حقَّقت أغراضها من حيث التَّربية، وإِعداد الثَّابتين على الإِسلام؛ ليكونوا قوَّاداً في حركة الفتوح الإِسلاميَّة فيما بعد: كعديِّ بن حاتم الطَّائيِّ أحد قواد فتوح العراق.

ج ـ تكوين قوى مسلمةٍ مرابطةٍ في بعض المراكز الَّتي حدَّدها لهم الصِّدِّيق؛ لتنضمَّ بعد ذلك إِلى الجيوش القادمة.

دـ القضاء على بعض مناطق الردَّة ولو بمحدودية ضيِّقة، مثلما حصل في جنوب الجزيرة العربيَّة.

2ـ إِرسال الجيوش المنظَّمة:

لمَّا وصل جيش أسامة بعد شهرين ـ وقيل: أربعين يوماً ـ من مسيرهم، واستراحوا، خرج أبو بكر الصِّديق بالصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ إِلى (ذي القَصَّة) وهي على مرحلة من المدينة، وذلك لقتال المرتدِّين والمتمرِّدين، فعرض عليه الصَّحابة أن يبعث غيره على القيادة، وأن يرجع إِلى المدينة ليتولَّى إِدارة أمور الأمَّة، وألحُّوا عليه بذلك.

وممَّا رُوي في هذا الموضوع ما قالته عائشة: خرج أبي شاهراً سيفه، راكباً راحلته إِلى وادي ذي القَصَّة، فجاء عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ فأخذ بزمام راحلته، فقال: إِلى أين يا خليفة رسول الله؟! أقول لك ما قال رسول الله(ﷺ) يوم أحد: شمْ سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أُصبنا بك؛ لا يكون للإِسلام بعدك نظامٌ أبداً ! فرجع .

وقد قسم أبو بكر الجيش الإِسلاميَّ إِلى أحد عشر لواءً، وجعل على كلِّ لواءٍ أميراً، وأَمَرَ كلَّ أمير جند باستنفار من مرَّ به من المسلمين التَّابعين من أهل القرى؛ الَّتي يمرُّ بها، وهم:

1ـ جيش خالد بن الوليد إِلى بني أسد، ثُمَّ إِلى تميم، ثمَّ إِلى اليمامة.

2ـ جيش عكرمة بن أبي جهل إِلى مسيلمة في بني حنيفة، ثمَّ إِلى عمان، والمهرة، فحضرموت، فاليمن.

3ـ جيش شُرَحْبِيل بن حَسَنة إِلى اليمامة في إِثر عكرمة، ثمَّ حضرموت.

4ـ جيش طُرَيْفَةَ بن حَاجِر إِلى بني سليم من هوازن.

5ـ جيش عمرو بن العاص إِلى قضاعة.

6ـ جيش خالد بن سعيد بن العاص إِلى مشارف الشَّام.

7ـ جيش العَلاَء بن الحَضْرمي إِلى البحرين.

8ـ جيش حذيفة بن مِحْصَنٍ الغلفاءين إِلى عُمان.

9ـ جيش عرفجة بن هرثمة إِلى مهرة.

10ـ جيش المهاجر بن أبي أميَّة إِلى اليمن (صنعاء، ثمَّ حضرموت).

11ـ جيش سُويد بن مقرِّن إِلى تهامة اليمن.

وهكذا اتُّخذت قرية (ذي القَصَّة) مركز انطلاقٍ، أو قاعدة تحرُّك للجيوش المنظَّمة الَّتي ستقوم بالتحرُّك إِلى مواطن الردَّة للقضاء عليها، وتنبئ خطَّة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ عن عبقريةٍ فذَّةٍ، وخبرةٍ جغرافيَّةٍ دقيقةٍ.

ومن خلال تقسيم الألوية، وتحديد المواقع يتَّضح: أنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان جغرافياً دقيقاً خبيراً بالتَّضاريس، والتجمُّعات البشريَّة، وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأنَّ الجزيرة العربية صورت مجسماً واضحاً نصب عينيه في غرفة عمليات مجهَّزةٍ بأحدث وسائل التِّقنيَّة، فمن يتمعَّن تسيير الجيوش ووجهة كلٍّ منها، واجتماعها بعد تفرُّقها، وتفرقها لتجتمع ثانيةً، يرى تغطيةً سليمةً رائعةً صحيحةً مثاليةً لجميع أرجاء الجزيرة مع دقَّةٍ في الاتصال مع هذه الجيوش، فأبو بكر في كلِّ ساعة يعلم أين مواقع الجيوش، ويعلم دقائق أمورها، وتحرُّكاتها، وما حققت، وما عليها في غدٍ من واجبات، والمراسلات دقيقةٌ وسريعةٌ تنقل أخبار الجبهات إِلى مقرِّ القيادة في المدينة حيث الصِّدِّيق، وكان على صلةٍ مستمرَّةٍ مع جيوشه كلِّها، وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقرِّ القيادة: أبو خيثمة النجارين الأنصاريُّ، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلميُّ، وسلمة بن وقش.

وكانت الجيوش الَّتي بعثها الصِّدِّيق متماسكةً، وهي أحد إِنجازات الدَّولة الهامَّة؛ إِذ جمعت تلك الجيوش بين مهارة القيادة، وبراعة التَّنظيم فضلاً عن الخبرة في القتال، صهرتها الأعمال العسكريَّة في حركة السَّرايا، والغزوات الَّتي تعدَّى بعضها شبه الجزيرة في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقد كان الجهاز العسكري لدولة الصِّدِّيق متفوقاً على كلِّ القوى العسكريَّة في الجزيرة، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقريَّة الفذَّة في حروب الردَّة، والفتوحات الإِسلاميَّة .

كان هذا التَّوزيع للجيوش وفق خطةٍ استراتيجيَّة هامَّةٍ مفادها: أنَّ المرتدِّين لا زالوا متفرِّقين، كلٌّ في بلده، ولم يحصل منهم تحزُّبٌ ضدَّ المسلمين بالنِّسبة للقبائل الكبيرة المتباعدة في المكان أوَّلاً؛ لأن الوقت لم يكن كافياً للقيام بعملٍ كهذا، حيث لم يمضِ على ارتدادهم إِلا ما يقرب من ثلاثة شهور، وثانياً لأنَّهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم، وأنَّهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعاً في شهورٍ معدودةٍ، ولذلك أراد الصِّدِّيق أن يعاجلهم بضرباتٍ مفاجئةٍ تقضي على شوكتهم، وقوَّتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم، فعاجلهم قبل استفحال فتنتهم، ولم يترك لهم فرصةً يطلُّون منها برؤوسهم، ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم الإِسلاميَّ، وبذلك طبَّق الحكمة القائلة:

لا تقطَعَنْ ذنب الأفعى وترسلها                إِن كنت شهماً فأتبع رأسَها الذنبا

فقد أدرك حجم الحدث، وأبعاده، ومدى خطورته، وعلم: أنَّه إِن لم يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرَّماد، فيحرق الأخضر واليابس، كما قال الأول:

أرى تحت الرَّماد وميض نارٍ        ويوشك أن يكونَ لها ضِرَامُ

فقد كان رضي الله عنه السِّياسي الماهر، والعسكري المحنك؛ الذي يقدِّر الأمور، ويضع لها الخطط المباشرة.

انطلقت الألوية التي عقدها الصديق، ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى ـ عز وجل ـ وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله ـ جل وعلا ـ هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره، وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.

هذا وقد كتب أبو بكر الصديق كتاباً واحداً إلى قبائل العرب من المرتدين، والمتمردين، فدعاهم إلى العودة إلى الإسلام، وتطبيقه كاملاً، كما جاء من عند الله تعالى، ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ما هم عليه في الدنيا والآخرة، وكان قوياً في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة انحرافهم، وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لابد من إنذار شديد يتبعه عمل جريء قوي لإزالة الطغيان؛ الذي عشش في أفكار زعماء تلك القبائل، والعصبية العمياء؛ التي سيطرت على أفكار أتباعهم.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022