براعة الصِّدِّيق العسكرية في حماية المدينة من المرتدين...
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة :الواحد والعشرون
أولا: خطَّة الصِّدِّيق لحماية المدينة:
انصرفت وفود القبائل المانعة للزَّكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصّدِّيق، وحزمه، وقد خرجت بأمرين:
أ ـ أنَّ قضية منع الزَّكاة لا تقبل المفاوضة، وأنَّ حكم الإِسلام فيها واضحٌ، ولذلك لا أمل في تنازل خليفة المسلمين عن عزمه، ورأيه، وخاصَّةً بعدما أيَّده المسلمون، وثبتوا على رأيه بعد وضوح الرُّؤية، وظهور الدَّليل.
ب ـ أنَّه لا بدَّ من اغتنام فرصة ضعف المسلمين ـ كما يظنُّون ـ وقلَّة عددهم لهجومٍ كاسحٍ على المدينة يسقط الحكم الإِسلاميَّ فيها، ويقضي على هذا الدِّين.
قرأ الصِّدِّيق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسَّة، وتفرَّس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: إِنَّ الأرض كافرةٌ، وقد رأى وفدهم منكم قلَّةً، وإِنَّكم لا تدرون أليا تؤتون، أم نهاراً! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم، ونودعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إِليهم عهدهم، فاستعدُّوا، وأعدُّوا. ووضع الصِّدِّيق خطَّته على الوجه التَّالي:
أ ـ ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتَّى يكونوا على أكمل استعدادٍ للدِّفاع.
ب ـ نظَّم الحرس الَّذين يقومون على أنقاب المدينة، ويبيتون حولها، حتَّى يدفعوا أيَّ غارةٍ قادمة.
ج ـ عيَّن على الحرس أمراءهم: عليَّ بن أبي طالبٍ، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاصٍ، وعبد الرحمن بن عوفٍ، وعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنهم.
د ـ وبعث أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إِلى مَنْ كان حوله من القبائل الَّتي ثبتت على الإِسلام مِنْ أسلم، وغفار، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردَّة، فاستجابوا له حتَّى امتلأت المدينة المنوَّرة بهم، وكانت معهم الخيل، والجمال الَّتي وضعوها تحت تصرف الصِّدِّيق، وممَّا يدلُّ على كثرة رجال هذه القبائل، وكبر حجم دعمها للصِّدِّيق: أنَّ جهينة وحدها قدمت إِلى الصِّدِّيق في أربعمئةٍ من رجالها، ومعهم الظَّهر والخيل، وساق عمرو بن مرَّة الجهنيُّ مئة بعيرٍ لإِعانة المسلمين، فوزَّعها أبو بكرٍ في النَّاس.
هـ ومن ابتعد من المرتدِّين عن المدينة، وأبطأ خطره؛ حاربه بالكتب، يبعث بها إِلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان رسول الله يفعل، يحرِّضهم على النُّهوض لقتال المرتدِّين، ويأمر النَّاس للقيام معهم في هذا الأمر. ومن أمثلة ذلك رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنس؛ الَّتي قال فيها:(أمَّا بعد فأعيونا الأبناء على مَنْ ناوأهم، وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجدُّوا معه، فإِنِّي قد وليته).
وقد أثمرت هذه الرِّسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز يعاونهم إِخوانهم من العرب بشن غارةٍ شعواء على العصاة المارقين حتَّى ردَّ الله كيدهم إِلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرُّج إلى جادَّة الحقِّ.
و ـ وأمَّا مَنْ قرب منهم من المدينة، واشتدَّ خطره، كبني عبسٍ، وذبيان؛ فإِنَّه لم ير بدّاً من محاربتهم على الرَّغم من الظُّروف القاسية؛ الَّتي كانت تعيشها مدينة رسول الله(ص)، فكان أن اوى الذَّراري والعيال إلى الحصون والشِّعاب محافظةً عليهم من غدر المرتدِّين، واستعدَّ للنِّزال بنفسه، ورجاله .
ثانيا: فشل أهل الردَّة في غزو المدينة:
بعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدِّين طرقت بعض قبائل أسد، وغطفان، وعبس، وذبيان، وبكر المدينة ليلاً، وخلَّفوا بعضهُم بذي حسي؛ ليكونوا لهم ردءاً، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصِّدِّيق بالخبر، فأرسل إِليهم أن الزموا أماكنكم! ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النَّواضح إِليهم، فانفش العدوُّ، فاتبعهم المسلمون على إِبلهم، حتَّى بلغوا ذا حُسَى، فخرج عليهم الرِّدْءُ بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال ثم ده دهوها بأرجلهم في وجوه الإِبل فتضهده كلُّ نحيٍ في طوله، فنفرت إِبل المسلمين وهم عليها ـ ولا تنفر الإِبل في شيء نفارَها من الأنحاء ـ فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة فلم يُصْرَع مسلمٌ ولم يُصَب.
وقال عبد الله اللَّيثي: وكانت بنو عبد مناة من المرتدَّة ـ وهم بنو ذبيان ـ في ذلك الأمر بذي القصَّة، وبذي حُسَى:
أطعنا رسولَ الله ما كان بيننا فيا لعبادِ الله ما لأبي بكر
يورثها بكراً إذا ماتَ بعدَه وتلكَ لعمرُ الله قاصمةُ الظهر
فهلا ردَدْتمْ وفدنا بزمانه وهلاَّ خشِيْتُم حس راغية البكر
وان الَّتي سألُوكُمُ فمنعتُمُ كالتمر أو أحلى إِليَّ من التَّمْرِ
فظنَّ القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إِلى أهل ذي القصَّة بالخبر، فقدموا عليهم اعتماداً في الَّذين أخبروهم، وهم لا يشعرون لأمر الله عزَّ وجل الَّذي أراده، وأحبَّ أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيَّأ، فعبَّى النَّاس، ثمَّ خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النُّعمان بن مُقَرِّن، وعلى ميسرته عبد الله بن مُقَرِّن، وعلى السَّاقة سُويد بن مُقَرِّن معه الرِّكاب، فما طلع الفجر إِلا وهم والعدوُّ في صعيدٍ واحدٍ، فما سمعوا للمسلمين همساً، ولا حسَّاً حتى وضعوا فيهم السُّيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذرَّ قرن الشَّمس حتَّى ولَّوْهُمُ الأدبار، وغلبوهم على عامَّة ظهرهم، وقُتِل حبالُ ـ أخو طليحة الأسديِّ ـ .
واتبعهم أبو بكر حتَّى نزل بذي القصَّة ـ وكان أوَّل الفتح ـ ووضع بها النُّعمان بن مُقَرِّن في عددٍ، ورجع إِلى المدينة، فذلَّ بها المشركون، فوثب بنو ذبيان، وعبس على من فيهم من المسلمين، فقتلوهم كلَّ قتلة، وفعل مَنْ وراءهم فعلهم، وعزَّ المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلنَّ في المشركين كل قتلة، وليقتلنَّ في كلِّ قبيلةٍ بمن قتلوا من المسلمين، وزيادة.
وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التَّميميُّ:
غَداةَ سَعَى أبو بكر إليهمْ كما يَسْعَى لموْتَتِه جلال
أراح على نَوَاهِقِها عَلِيّاً ومَجَّ لهُنَّ مُهْجَتَهُ حِبالُ
وصمَّم الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على أن ينتقم للمسلمين الشُّهداء، وأن يؤدِّب هؤلاء الحاقدين، ونفذ قسمه، وازداد المسلمون في بقيَّة القبائل ثباتاً على دينهم، وازداد المشركون ذلاًّ، وضعفاً، وهواناً، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة، فطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان، ثمَّ الزبرقان، ثمَّ عديٍّ، صفوان في أوَّل الليل، والثَّاني في وسطه، والثَّالث في آخره.
وفي ليلةٍ واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستَّة أحياءٍ من العرب، وكان كلَّما طلع على المدينة أحد جباة الزَّكاة قال الناس:(نذير) فيقول أبو بكر:(بل بشير) وإِذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه، فيقول النَّاس لأبي بكرٍ: طالما بشَّرتنا بالخير. وخلال هذه البشائر الَّتي تحمل معها بعض العزاء، وشيئاً من الثَّراء عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافراً، وصنع كلَّ ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر به، وما أوصاه به أبو بكر الصِّدِّيق، فاستخلف أبو بكر على المدينة، وقال له ولجنده: أريحوا، وأريحوا ظهركم.
ثمَّ خرج في الذين خرجوا إِلى ذي القصَّة، والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرِّض نفسك! فإِنَّك إن تُصَبْ؛ لم يكن للنَّاس نظامٌ، ومقامك أشدُّ على العدو، فابعث رجلاً، فإِن أصيب أمّرت اخر فقال: لا والله لا أفعل! ولأواسيكم بنفسي.
لقد ظهر معدِن الصِّدِّيق النَّفيس في محنة الردَّة على أجلى صورةٍ للقائد المؤمن الَّذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوةٌ في أعماله، فكان من اثار هذه السِّياسة الصِّدِّيقيَّة أن تقوَّى المسلمون، وتشجَّعوا لحرب عدوهم، واستجابوا لتطبيق الأوامر الصَّادرة إِليهم من القيادة.
لقد خرج الصِّدِّيق في تعبيته إِلى ذي حُسَى، وذي القصَّة، والنُّعمان، وعبد الله، وسُويد على ما كانوا عليه، حتَّى نزل على أهل الربدة بالأبرق، فهزم الله الحارث، وعوفاً، وأخذ الحطيئة أسيراً، فطارت عبس، وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً، وقد غلب بنو ذبيان على البلاد. وقال: حرامٌ على ذبيان أن يتملَّكوا هذه البلاد؛ إِذ غنمناها الله وأجلاها، فلمَّا غلبَ أهلَ الرِّدَّة، ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وسامح النَّاسَ، جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينزلوها، فمنعوا منها، فأتوه في المدينة فقالوا: علام نمنع من نزول بلادنا! فقال: كذبتم، ليست لكم ببلاد، ولكنَّها مَوْهبي، ونَقَذي، ولم يُعتبهم، وحمى الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربدة النَّاس على بني ثعلبة، ثَّم حماها كلَّها لصدقات المسلمين لقتالٍ كان وقع بين النَّاس وأصحاب الصَّدقات، وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة:
ويومَاً بالأبارقِ قد شَهِدْنَا على ذبيانَ يلتهبُ التهابا
أتيناهم بداهيةٍ نَسُوف مع الصِّديق إِذ ترك العِتابَا
وهكذا يتعلَّم المسلمون من سيرة الصِّديق بأنَّه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأيِّ أمر من أمور الدُّنيا، وما اضطربت أمور المسلمين منذ زمنٍ إِلا لأنَّهم كانوا يعدُّون الرئاسة وسيلةً للجاه، وباباً لجلب المغانم، ودرء المغارم، وإِيثاراً للعافية، والاكتفاء بالكلمات تزجى من وراء أجهزة الإِعلام، أو من غرف العمليَّات، بعيداً عن المشاركة مشاركةً حقيقيَّةً في قضايا الأمَّة المختلفة.
إِنَّ خروج الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ للجهاد ثلاث مرَّاتٍ متتاليةٍ يعتبر تضحيةً كبيرةً، وفدائيةً عاليةً، فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة، ويبعث قائداً على الجيش، فلم يقبل، بل قال: لا والله لا أفعل! ولأواسيكم بنفسي. وهذا يدلُّ على تواضعه الجمِّ، واهتمامه الكبير بمصلحة الأمَّة، وتجرُّده من حظِّ النَّفس، وقد أصبح بذلك قدوةً صالحةً لغيره، فلا شكَّ: أنَّ خروجه للجهاد ثلاث مرَّاتٍ متتالياتٍ، وهو الشَّيخ الَّذي بلغ السِّتِّين من عمره، قد أعطى بقيَّة الصَّحابة دفعاتٍ قويةً من النَّشاط، والحيويَّة.
وقد جاء في إِحدى هذه الرِّوايات: أنَّ ضرار بن الأزور حينما أخبر أبا بكر الصِّدِّيق بخبر تجمُّع طليحة الأسدي؛ قال: فما رأيت أحداً ـ ليس رسول الله ـ أملأ بحربٍ شعواءَ من أبي بكرٍ، فجعلنا نخبره، ولكأنهما نخبر بما له، ولا عليه.
وهذا وصفٌ بليغٌ لما كان يتَّصف به أبو بكر من اليقين الرَّاسخ، والثِّقة التامَّة بوعد الله تعالى لأوليائه بالنَّصر على الأعداء، والتَّمكين في الأرض، فأبو بكر لم يَفُق الصَّحابة بكبير عملٍ، وإِنَّما فاقهم بحيازة الدَّرجات العُلى من اليقين رضي الله عنهم أجمعين.
وقد روي أنَّه لما قيل له: لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال؛ لهادها، وبالبحار لغادها، وما نراك ضعُفت. فقال: ما دخل قلبي رعبٌ بعد ليلة الغار، فإِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني؛ قال: لا عليك يا أبا بكر! فإِنَّ الله قد تكفَّل لهذا الأمر بالتَّمام، فكان له ـ رضي الله عنه ـ مع الشَّجاعة الطَّبيعية شجاعةٌ دينيةٌ، وقوَّةٌ يقينيَّة في الله عزَّ وجل، وثقةٌ بأنَّ الله ينصره، والمؤمنين، وهذه الشَّجاعة لا تحصل إِلا لمن كان قوي القلب، وتزيد بزيادة الإيمان، وتنقص بنقص ذلك، فقد كان الصِّدِّيق أقوى قلباً من جميع الصَّحابة لا يقاربه في ذلك أحدٌ منهم.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي