الدروس المستفادة من إنفاذ الصِّدِّيق جيش أسامة...عِبرٌ تجسد كثافة المعاني والقيم الإسلامية النبيلة:
بقلم: د. علي محمّد الصلابي
الحلقة :التاسعة عشر
1ـ الأحوال تتغيَّر، وتتبدَّل، والشَّدائد لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدِّين:
ما أشدَّ التَّحوُّل، وأختره! وما أسرعه كذلك! سبحان الله الذي يقلب الأحوال كيفما يشاء: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *} [البروج: 16] {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *}: 23]. تأتي وفود العرب مذعنةً منقادةً مطيعةً وبهذه الكثرة، حتى سمِّي العام التاسع عام الوفود، ثمَّ تتقلَّب الأحوال، فيخشى من أن تأتي القبائل العربيَّة للإغارة على المدينة المنورة عاصمة الإسلام، بل قد جاءت للإغارة للقضاء ـ على حسب زعمها الباطل ـ على الإسلام والمسلمين، ولا غرابة في هذا فإنَّ من سنن الله الثابتة في الأمم أنَّ أيامها لا تبقى ثابتةً على حالةٍ، بل تتغيَّر، وتتبدَّل، وقد أَخبر بذلك الذي يقلِّب الأيّام وَيصرفها عزَّ وجلَّ بقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] .
قال الرَّازي في تفسيره: والمعنى: أنَّ أيام الدُّنيا هي دولٌ بين الناس، لا يدوم مسارُّها، ولا مدارها، فيومٌ يحصل فيه سرورٌ له، والغمُّ لعدوه، ويومٌ اخر بالعكس من ذلك، ولا يبقى شيءٌ من أحوالها، ولا يستقرُّ أثرٌ من اثارها.
وجاءت صيغة المضارعة نُدَاوِلُها للدَّلالة على تجدُّد سنَّة مداولة الأيام من الأمم، واستمرارها، وفي هذا قال القاضي أبو السعود: وصيغة المضارع الدَّالة على التَّجدُّد، والاستمرار للإيذان بأنَّ تلك المداولة سنَّةٌ مسلوكةٌ بين الأمم قاطبةً، سابقتها، ولاحقتهاوقد قيل: الأيَّامُ دولٌ، والحرب سجالٌ.
وقال الشاعر:
فَيَومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساء ويومٌ نُسَرُّ
فالصِّدِّيق يعلِّم الأمَّة إذا نزلت بها الشِّدَّة، وألمَّت بها المصيبة أن تصبر، فالنَّصر مع الصَّبر، وألا تيأس ولا تقنط من رحمة الله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [الأعراف: 56].
وليتذكَّر المسلم دائماً: أنَّ الشدة مهما عظمت، والمصيبة مهما اشتدَّت، وكبرت فإنَّ من سنن الله الثابتة: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *} [الشرح: 5، 6] وإن المسلم لأمره عجيبٌ في هذه الدنيا، فقد بيَّن رسول الله صلَى الله عليه وسلم ذلك في قوله: « عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيراً له ».
ومن الدُّروس المستفادة من بعث جيش أسامة: أنَّ الشدائد، والمصائب مهما عظمت، وكبرت لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدِّين. إنَّ وفاة الرسول الكريم صلَى الله عليه وسلم لم تشغل الصِّدِّيق عن أمر الدِّين. وأمر ببعث أسامة في ظروف كالحة مظلمة بالنِّسبة للمسلمين ولكن ما تعلَّمه الصِّدِّيق من رسول الله من الاهتمام بأمر الدِّين مقدَّم على كلِّ شيءٍ، وبقي هذا الأمر حتى ارتحل من هذه الدُّنيا.
2ـ المسيرة الدَّعوية لا ترتبط بأحدٍ، ووجوب اتِّباع النبيِّ صلَى الله عليه وسلم:
وفي قصَّة إنفاذ أبي بكرٍ الصِّدِّيق جيش أسامة ـ رضي الله عنهما ـ نجد أنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بيَّن بقوله وعمله: أنَّ مسيرة الدَّعوة لم، ولن تتوقَّف حتى بموت سيِّد الخلق، وإمام الأنبياء، وقائد المرسلين صلَى الله عليه وسلم، وأثبتَ مواصلةَ العمل الدَّعويِّ بالمبادرة إلى إنفاذ هذا الجيش، حيث نادى مناديه في اليوم الثالث من وفاة رسول الله صلَى الله عليه وسلم بخروج جند أسامة ـ رضي الله عنه ـ إلى عسكره بالجُرْف. وقد كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قبل ذلك قد بيَّن في خطبته التي ألقاها إثر بيعته عن عزمه على مواصلة بذل الجهود لخدمة هذا الدِّين.
وقد جاء في روايةٍ قوله: فاتقوا الله أيها الناس! واعتصموا بدينكم، وتوكَّلوا على ربِّكم، فإنَّ دين الله قائمٌ، وإنَّ كلمة الله تامَّةٌ، وإنَّ الله ناصر من نصره، ومعزُّ دينه، والله! لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله! إنَّ سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهد مَنْ خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلَى الله عليه وسلم، فلا يبغينَّ أحدٌ إلا على نفسه.
ومن الدروس المستفادة من قصَّة إنفاذ الصِّدِّيق جيش أسامة ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه يجب على المسلمين اتِّباع أمر النبيِّ صلَى الله عليه وسلم في السَّرَّاء، والضَّرَّاء، فقد بيَّن الصِّدِّيق من فعله: أنَّه عاضٌّ على أوامر النبيِّ صلَى الله عليه وسلم بالنواجذ، ومنفِّذُها مهما كثرت المخاوف، واشتدَّت المخاطر، وقد تجلَّى هذا أثناء هذه القصَّة عدَّة مرَّاتٍ، منها:
أ ـ لمّا طلب المسلمون إيقاف جيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ نظراً لتغيُّر الأحوال، وتدهورها؛ أجاب ـ رضي الله عنه ـ بمقولته الخالدة: والذي نفس أبي بكرٍ بيده! لو ظننت أنَّ السِّباع تخطفني؛ لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله صلَى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري؛ لأنفذته.
ب ـ ولمّا استأذنه أسامة ـ رضي الله عنهما ـ في الرُّجوع بجيشه من الجُرْف إلى المدينة خوفاً على الصِّدِّيق وأهل المدينة؛ لم يأذن له، بل أبدى عزمه، وتصميمه على تنفيذ قضاء النبيِّ الكريم صلَى الله عليه وسلم بقوله: لو خطفتني الكلاب، والذِّئاب، لم أردَّ قضاءً قضى به رسول الله صلَى الله عليه وسلم. وقدَّم رضي الله عنه بموقفه هذا صورةً تطبيقيَّةً لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *} [الأحزاب: 36].
ج ـ وعندما طُلب منه تعيين رجلٍ أقدم سنّاً من أسامة ـ رضي الله عنه ـ أبدى غضبه الشديد على الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بسبب جرأته على نقل مثل هذا الاقتراح، وقال له: ثقلتك أمُّك، وعدمتك يأبن الخطاب! استعمله رسول الله صلَى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أنزعه.
د ـ وتجلَّى اهتمام أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ باتِّباع النبيِّ الكريم صلَى الله عليه وسلم كذلك في خروجه لتشييع الجيش، ومشيه مع أسامة ـ رضي الله عنه ـ الذي كان راكباً. ولقد كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في عمله هذا مقتدياً بما فعله سيِّد الأولين، والآخرين رسولنا الكريم ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ مع معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ لما بعثه رسول الله صلَى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقد روى الإمام أحمد عن معاذ ابن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: لمّا بعثه رسول الله صلَى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلَى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ ـ رضي الله عنه ـ راكبٌ، ورسول الله صلَى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته.
قال الشَّيخ أحمد البنَّا تعليقاً على هذا الحديث: وقد فعل ذلك أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بأسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ مع صغر سنِّه، فقد عقد له النبيُّ صلَى الله عليه وسلم قبل وفاته لواءً على جيشٍ ولم يسافر إلا بعد وفاة النبيِّ صلَى الله عليه وسلم، فشيعه أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ماشياً، وأسامة ـ رضي الله عنه ـ راكباً، اقتداءً بما فعله النبيُّ صلَى الله عليه وسلم بمعاذٍ رضي الله عنه.
هـ وظهرت عناية أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بالاقتداء بالرَّسول الكريم صلَى الله عليه وسلم أيضاً في قيامه بتوصية الجيش عند توديعهم، حيث كان رسول الله صلَى الله عليه وسلم يوصي الجيوش عند توديعهم، ولم يقتصر الصِّدِّيق على هذا، بل إنَّ معظم ما جاء في وصيته لجيش أسامة كان مقتبساً من وصايا النبيِّ صلَى الله عليه وسلم للجيوش.
ولم يقف أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في الاقتداء بالرَّسول الكريم صلَى الله عليه وسلم فيما قاله، وفعله فحسب، بل أمر أمير الجيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ بتنفيذ أمره صلَى الله عليه وسلم، ونهاه عن التَّقصير فيه، فقد قال له رضي الله عنهما: اصنع ما أمرك به نبيُّ الله صلَى الله عليه وسلم، اِبدأ ببلاد قضاعة، ثم إيت ابل، ولا تقصرنَّ شيئاً من أمر رسول الله صلَى الله عليه وسلم . وفي رواية أخرى: أنَّه قال صلَى الله عليه وسلم: امض يا أسامة للوجه الذي أُمرت به، ثمَّ اغز حيث أمرك رسول الله صلَى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة فإنَّ الله سيكفي ما تركت. وفي رواية عند ابن الأثير: وأوصى أسامةَ ـ رضي الله عنه ـ أن يفعل ما أمر به رسول الله صلَى الله عليه وسلم .
لقد انقاد الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ لرأي الصِّدِّيق، وشرح الله صدورهم لذلك، وتمسَّكوا بأمر الرسول الكريم صلَى الله عليه وسلم وبذلوا المستطاع لتحقيقه، فنصرهم الله تعالى، ورزقهم الغنائم، وألقى في قلوب الناس هيبتهم، وكفَّ عنهم كيد الأعداء، وشرَّهم.
وقد تحدَّث توماس ارنولد عن بعث جيش أسامة، فقال: بعد وفاة محمَّدٍ صلَى الله عليه وسلم أرسل أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ الجيش الذي كان النبيُّ صلَى الله عليه وسلم قد عزم على إرساله إلى مشارف الشام، وعلى الرَّغم من معارضة بعض المسلمين بسبب الحالة المضطربة في بلاد العرب إذ ذاك، فأسكت احتجاجهم بقوله: قضاءً قضى به رسول الله، ولو ظننتُ: أنَّ السِّباع تخطفني؛ لأنفذت جيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ كما أمر النبيُّ صلَى الله عليه وسلم ... ثمَّ قال: وكانت هذه هي أولى تلك السلسلة الرَّائعة من الحملات التي اجتاح العرب فيها سورية، وفارس، وأفريقية الشَّمالية، فقوضوا دولة فارس القديمة، وجرَّدوا الإمبراطورية الرُّومانية من أجمل ولاياتها.
وهكذا نرى: أنَّ الله تعالى قد ربط نصر الأمة، وعزَّها باتِّباع النبيِّ الكريم صلَى الله عليه وسلم، فمن أطاعه؛ فله النَّصر، والتَّمكين، ومن عصاه؛ فله الذُّلُّ، والهوان، فسرُّ حياة الأمَّة في طاعتها لربِّها واقتدائها بسنَّة نبيِّها صلَى الله عليه وسلم.
3ـ حدوث الخلاف بين المؤمنين، وردُّه إلى الكتاب والسُّنَّة:
وممّا نستفيد من هذه القصَّة: أنَّه قد يحدث الخلاف بين المؤمنين الصَّادقين حول بعض الأمور، فقد اختلفت الآراء حول إنفاذ جيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ في تلك الظروف الصَّعبة، وقد تعدَّدت الأقوال حول إمارته، ولم يجرَّهم الخلاف في الرأي إلى التَّباغض، والتَّشاجر، والتَّدابر، والتَّقاطع، والتَّقاتل، ولم يصرَّ أحدٌ على رأي بعد وضوح فساده، وبطلانه، وعندما ردَّ الصِّدِّيق الخلاف إلى ما ثبت من أمر النبيِّ صلَى الله عليه وسلم ببعث أسامة، وبيَّن رضي الله عنه: أنَّه ما كان ليفرِّط فيما أمر به رسول الله صلَى الله عليه وسلم مهما تغيَّرت الأحوال، وتبدَّلت؛ استجاب بقيَّة الصَّحابة لحكم النبيِّ صلَى الله عليه وسلم بعدما وضَّحه لهم الصِّدِّيق، كما أنَّه لا عبرة لرأي الأغلبية إذا كان مخالفاً للنَّصِّ، فقد رأى عامَّة الصَّحابة حبس جيش أسامة، وقالوا للصِّدِّيق: إنَّ العرب قد انتقضت عليك، وإنَّك لا تصنع بتفريق النَّاس شيئاً، فأولئك الناس لم يكونوا كعامَّة الناس، بل كانوا من الصَّحابة الذين هم خير البشر، وجدوا على الأرض بعد الأنبياء والرُّسل ـ عليهم السلام ـ لكنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لم يستجب لهم مبيِّناً: أنَّ أمر رسول الله صلَى الله عليه وسلم أجلُّ وأكرمُ، وأوجبُ، وألزمُ من رأيهم كلِّهم.
وقد تجلَّت هذه الحقيقة في حادثة وفاة النبيِّ صلَى الله عليه وسلم حيث رأى عامَّة الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ وفيهم عمرُ ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبيَّ صلَى الله عليه وسلم لم يمت، ورأى عددٌ قليلٌ من الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ: أنه صلَى الله عليه وسلم قد مات، منهم أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وقد رأينا أنَّ أبا بكرٍ تمسَّك بالنَّصِّ، وبيَّن خطأ مَنْ قال: إنَّ رسول الله صلَى الله عليه وسلم لم يمت.
قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على رأي الأكثرين حول وفاته صلَى الله عليه وسلم: فيؤخذ منه: أنَّ الأقل عدداً في الاجتهاد قد يصيب، ويخطئ الأكثريَّة فلا يتعيَّن التَّرجيح بالأكثر.
فخلاصة الكلام: أنَّ ممّا نستقيده من قصَّة تنفيذ الصِّدِّيق جيش أسامة ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ تأييد الكثرة لرأيٍ ليس دليلاً على إصابته، وممّا يستفاد من هذه القصَّة انقياد المؤمنين، وخضوعهم للحقِّ إذا اتَّضح لهم، فعندما ذكَّرهم الصِّدِّيق أنَّ النبيَّ صلَى الله عليه وسلم قد أمر بتنفيذ جيش أسامة، وهو الذي عيَّن أسامة أميراً على الجيش؛ إنقاد أولئك الأبرار للأمر النبويِّ الكريم.
4ـ جعل الدَّعوة مقرونةً بالعمل، ومكانة الشَّباب في خدمة الإسلام:
لمّا أصرَّ أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ على بقاء أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ أميراً للجيش حرصاً منه على التمسُّك بما قرَّره رسول الله صلَى الله عليه وسلم؛ لم يقتصر على الإصرار على إمارته فحسب، بل قدَّم اعترافاً عملياً بإمارته، وقد تجلَّى ذلك في أمرين:
أـ مشى أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ مع أسامة ـ رضي الله عنه ـ وهو راكبٌ، وقد كان ابن عشرين سنة، أو ثماني عشرة سنةً، وكان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قد تجاوز ستِّين سنةً من عمره، وأصرَّ على المشي مع أسامة ـ رضي الله عنه ـ كما أصرَّ على بقاء أسامة ـ رضي الله عنه ـ راكباً لمّا طلب منه أسامة ـ رضي الله عنه ـ إمّا أن يركب هو، أو يأذن له بالنزول، فلم يوافق رضي الله عنه لا على هذا، ولا على ذاك، وبهذا قدَّم رضي الله عنه باستمراره في مشيه ذلك دعوةً لجيش أسامة ـ رضي الله عنه ـ إلى الاعتراف بإمرة أسامة ـ رضي الله عنه ـ ورفع الحرج عنها من صدورهم، وكأنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بمشيه ذلك يخاطب الجيش، فيقول:
انظروا أيُّها المسلمون! أنا أبو بكرٍ رغم كوني خليفةَ رسول الله صلَى الله عليه وسلم أمشي مع أسامة، وهو راكبٌ، إقراراً، وتقديراً لإمارته، حيث أمَّره رسولنا الكريم إمامنا الأعظم، وقائدنا الأعلى ـ صلوات ربِّي وسلامه عليه ـ فكيف تجرأتم على الانتقاد على إمارته؟!
ب ـ كان أبو بكرٍ الصِّدِّيق يرغب في بقاء عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ بالمدينة نظراً لحاجته إليه. لكنَّه لم يأمره بذلك، بل استأذن من أسامة ـ رضي الله عنه ـ في تركه إيّاه بالمدينة؛ إن رأى هو ذلك مناسباً، وبهذا قدَّم الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ صورةً تطبيقيَّةً أخرى لاعترافه، واحترامه لإمارة أسامة ـ رضي الله عنه ـ وفيها بلا شكٍّ دعوةٌ قويةٌ للجيش إلى الإقرار، والانقياد لإمارته.
وهذا الذي اهتمَّ به الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ من جعل دعوته مقرونةً بالعمل هو الذي أمر به الإسلام، ووبَّخ الرَّبُّ ـ عزَّ وجلَّ ـ أولئك الذين يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [البقرة: 44] .
وممّا يتجلَّى في هذه القصَّة كذلك منزلة الشباب العظيمة في خدمة الإسلام، فقد عيَّن رسول الله صلَى الله عليه وسلم الشَّابَّ أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أميراً على الجيش المعدِّ لقتال الرُّوم ـ القوة العظيمة في زعم الناس في ذلك الوقت ـ وكان عمره آنذاك عشرين سنةً، أو ثماني عشرة سنةً، وأقرَّه أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على منصبه رغم انتقاد الناس، وعاد الأمير الشَّابُّ بفضل الله تعالى من مهمَّته التي أُسندت إليه غانماً ظافراً.
وفي هذا توجيهٌ للشَّباب في معرفة مكانتهم في خدمة الإسلام، ولو نعيد النَّظر في تاريخ الدعوة الإسلامية في المرحلتين المكِّيَّة، والمدنيَّة؛ لوجدنا شواهد كثيرةً تدلُّ على ما قام به شباب الإسلام في خدمة القران والسُّنَّة، وإدارة أمور الدَّولة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، والدَّعوة إلى الله تعالى.
5ـ صورة مشرقة من آداب الجهاد في الإسلام:
ومن فوائد قصَّة بعث أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ لجيش أسامة: أنها تقدِّم لنا صورةً مشرقةً للجهاد الإسلامي، وقد تجلَّت تلك الصُّورة في وصيَّة أبي بكرٍ الصِّدِّيق لجيش أسامة عند توديعه إيّاهم، ولم يكن أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في وصاياه للجيوش إلا مستناً بسنَّة المصطفى صلَى الله عليه وسلم، حيث كان عليه الصلاة والسلام يوصي الأمراء والجيوش عند توديعهم، ومن خلال فقرات الوصيَّة التي جاءت في البحث تظهر الغاية من حروب المسلمين، فهي دعوةٌ إلى الإسلام، فإذا ما رأت الشُّعوب جيشاً يلتزم بهذه الوصايا لا تملك إلا الدُّخول في دين الله طواعيةً، واختياراً:
أـ إنَّها ترى جيشاً لا يخون، بل يصون الأمانة، ويفي بالعهد، ولا يسرق مال الناس، أو يستولي عليه دون حقٍّ.
ب ـ جيشاً لا يمثل بالآدميِّين، بل هو يحسن القتل كما يحسن العفو، يحترم الطِّفل، ويرحمه، ويبر الشيخ الكبير، ويكرمه، ويصون المرأة، ويحفظُها.
ج ـ جيشاً لا يبدِّد ثروة البلاد المفتوحة، بل تراه يحفظ النَّخيل، ولا يحرقه، ولا يقطع شجرةً مثمرةً، ولا يدمِّر المزروعات، أو يخرب الحقول.
د ـ وإذا ما حافظ على الثَّروة الآدميَّة، فلم يغدر، ولم يخن، ولم يغلَّ، ولم يمثل بقتيل، ولم يقتل طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، وحافظ على الثَّروة الزِّراعية، فلم يعقر نخلاً، أو يقطع شجرةً مثمرةً، فهو يحافظ في نفس الوقت على الثروة الحيوانيَّة، فلا يذبح شاةً، أو بقرةً، أو بعيراً إلا للأكل فقط، فهل تحافظ الجيوش على واحدٍ من هذه الأشياء؟ أم أنَّها تحوِّل البلاد التي تحاربها إلى خرابٍ ودمار؟ والمثال قائمٌ في العدوان الشُّيوعي الملحد على أفغانستان، وفي البوسنة من قبل الصِّرب، وكذلك كوسوفا، وفي كشمير من قبل الهند على المسلمين، وفي الشيشان، وفي فلسطين من قبل اليهود، ألا ما أعظم الفرق بين هداية الله، وضلال الملحدين!
هـ وهو جيشٌ يحترم العقائد، والأديان السَّابقة عليه، فيحافظ على العبّاد في صوامعهم، ولا يتعرَّض لهم بأذى.. وتلك دعوةٌ عمليَّة تدلُّ على سماحة الإسلام وعدالته، أمّا مَنْ يعيثون في الأرض فساداً، ويحاربون الحقَّ؛ فجزاؤهم القتل؛ ليكونوا عبرةً لغيرهم.
وما جاء في وصيَّة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لم يكن كلماتٍ قيلت، بل طبَّقها المسلمون في عصره، وبعدهوسنرى ذلك بإذن الله في فتوحاته رضي الله عنه .
6ـ أثر جيش أسامة على هيبة الدَّولة الإسلاميَّة:
عاد جيش أسامة ظافراً غانماً بعدما أرهب الرُّوم حتى قال لهم هرقل وهو بحمص بعدما جمع بطارقته: هذا الذي حذرتكم، فأبيتم أن تقبلوا منِّي!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهرٍ، فتغير عليكم، ثمَّ تخرج من ساعتها، ولم تكْلَمْ. قال أخوه (يناف): فابعث رباطاً (جنداً مرابطين) تكون بالبلقاء. فبعث رباطاً، واستعمل عليهم رجلاً من أصحابه، فلم يزل مقيماً حتى تقدَّمت البعوث إلى الشَّام في خلافة أبي بكرٍ، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ثمَّ تعجَّب الرُّوم بأجمعهم، وقالوا: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم، ثمَّ أغاروا على أرضنا ؟.
وأصاب القبائل العربيَّة في الشمال الرُّعب، والفزع من سطوة الدَّولة، وعندما بلغ جيش أسامة الظَّافر إلى المدينة تلقّاه أبو بكرٍ، وكان قد خرج في جماعةٍ من كبار المهاجرين، والأنصار للقائه، وكلُّهم خرج، وتهلَّل، وتلقَّاه أهل المدينة بالإعجاب، والسُّرور، والتَّقدير، ودخل أسامة المدينة، وقصد مسجد رسول الله صلَى الله عليه وسلم وصلَّى لله شكراً على ما أنعم به عليه وعلى المسلمين .
وكان لهذه الغزوة أثرٌ في حياة المسلمين، وفي حياة العرب؛ الذين فكَّروا في الثورة عليهم، وفي حياة الرُّوم؛ الذين تمتدُّ بلادهم على حدودهم، فقد فعل هذا الجيش بسمعته ما لم يفعله بقوَّته، وعدده، فأحجم من المرتدِّين من أقدم، وتفرَّق من اجتمع، وهادن المسلمين مَنْ أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرِّجال، وقبل أن يصنع السِّلاح.
حقّاً لقد كان إرسال هذا الجيش نعمةً على المسلمين؛ إذ أمست جبهة الردَّة في الشَّمال أضعف الجبهات، ولعلَّ من اثار هذا: أنَّ هذه الجبهة في وقت الفتوحات كان كسرها أهون على المسلمين من كسر جبهة العدو في العراق، كلُّ ذلك يؤكِّد: أنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كان في الأزمات من بين جميع الباحثين عن الحلِّ أثقبهم نظراً، وأعمقهم فهماً.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي