من شهداء معركة اليمامة...مُجاهدون خُلدت أسمائهم على صفحات التاريخ الإسلامي المجيد
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : الحادية و الثلاثون
1ـ ثابت بن قيس بن شمَّاس؛ الذي أجاز الصِّدِّيق وصيته بعد موته:
هو أبو محمَّد خطيب الأنصار، وقد ثبت: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشَّره بالشَّهادة، وقتل يوم اليمامة شهيداً، وكانت راية الأنصار يومئذٍ بيده، وقد رأى رجلٌ من المسلمين ثابت بن قيس في منامه، فقال: إِنِّي لما قتلت بالأمس مرَّ بي رجلٌ من المسلمين فانتزع منِّي درعاً نفيسةً، ومنزله في أقصى العسكر، وعند خبائه فرسٌ يستَنُّ في طوله، وقد كفأ على الدِّرع بُرْمَة، وفوق البرمة رحلٌ، فائْتِ خالداً فمره أن يبعث إِلى درعي فيأخذها، وإِذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله ـ يعني: أبا بكرٍ ـ فقل له: إِنَّ عليَّ من الدَّين كذا، وكذا، وفلانٌ من رقيقي عتيقٌ، وإِيَّاك أن تقول: هذا حلم فتضيِّعه! قال: فأتى خالداً، فوجهه إِلى الدِّرع، فوجدها كما ذكر، وقدم على أبي بكرٍ فأخبره، فأنفذ أبو بكر وصيَّته بعد موته، فلا يعلم أحدٌ جازت وصيَّته بعد موته إِلا ثابت ابن قيس بن شمَّاس.
2ـ زيد بن الخطَّاب رضي الله عنه:
هو أخو عمر بن الخطاب لأبيه، وكان أكبر من عمر، أسلم قديماً، وشهد بدراً، وما بعدها، وقد اخذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عديٍّ الأنصاريِّ، وقد قتلا جميعاً باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذٍ بيده، فلم يزل يتقدَّم بها حتَّى قتل، فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قَتل زيدٌ يومئذٍ الرَّجال بن عنفوه؛ الَّذي كانت فتنته على بني حنيفة أشدَّ من فتنة مسيلمة، فكان مصرعه على يد زيد ـ رضي الله عنه ـ والذي قتل زيداً رجلٌ يقال له: أبو مريم الحنفيُّ، وقد أسلم بعد ذلك، وقال لعمر: يا أمير المؤمنين! إِنَّ الله أكرم زيداً بيدي، ولم يهنِّي على يده، وقد قال عمر لمَّا بلغه مقتل زيد بن الخطاب: رحم الله أخي زيداً سبقني إِلى الحُسْنَيَيْن: أسلم قبلي، واستشهد قبلي، وقال لمتمِّم بن نويرة حين جعل يرثي أخاه مالكاً بالأشعار: لو كنت أحسن الشِّعر؛ لقلت كما قلت، فقال له متمِّم: لو أنَّ أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه، فقال له: ما عزَّاني أحد بمثل ما عزَّيتني به! ومع هذا كان عمر يقول: ما هبَّت الصَّبا إِلا ذكرتني زيداً رضي الله عنه.
3ـ معن بن عديٍّ البلوي:
شهد العقبة، وبدراً، وأحداً، والخندق، وسائر المشاهد، وكان قد اخذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن الخطَّاب فقتلا جميعاً يوم اليمامة ـ رضي الله عنهما ـ وكان لمعن بن عديٍّ موقفٌ متميِّزٌ عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعندما بكى النَّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات، وقالوا: والله وددنا أنَّا متنا قبله، ونخشى أن نفتتن بعده! فقال معن بن عديٍّ: لكنِّي والله ما أحبُّ أن أموت قبله، لأصدِّقه ميتاً كما صدَّقتُه حيّاً.
4ـ عبد الله بن سهيل بن عمرو:
أسلم قديماً، وهاجر، ثمَّ استضعف بمكَّة، فلمَّا كان يوم بدر؛ خرج معهم، فلمَّا توجهوا؛ فرَّ إِلى المسلمين، فشهدها معهم، وقُتل يوم اليمامة، فلمَّا حجَّ أبو بكر عزَّى أباه فيه، فقال سهيل: بلغني: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يشفع الشَّهيد لسبعين من أهله ». فأرجو أن يبدأ بي، وقد كان لسهيل بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ موقفٌ عظيمٌ بمكَّة حين توفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد همَّ أكثر أهل مكَّة بالرُّجوع عن الإِسلام، وأرادوا ذلك حتَّى خافهم والي مكَّة عتَّاب بن أُسيد، فتوارى، فقام سهيل ابن عمرو، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: إِنَّ ذلك لم يزد الإِسلام إِلا قوَّةً، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع النَّاس، وكفوا عمَّا همُّوا به، فظهر عتَّاب بن أُسيد . فهذا المقام؛ الَّذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعمر بن الخطاب ـ يعني: حين أشار بنزع ثنيَّته حين وقع في الأسارى يوم بدر ـ: « إِنَّه عسى أن يقوم مقاماً لا تَذُمَّنَّهُ ».
5ـ أبو دُجانة سماك بن خرشه:
كانت عليه يوم بدر عصابةٌ حمراء، قيل: اخذى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين عتبة بن غزوان، وثبت أبو دجانة يوم أحد مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبايعه على الموت، وهو ممَّن اشترك في قتل مسيلمة، وقُتل يومئذٍ، وقال زيد بن أسلم: دُخل على أبي دجانة وهو مريض ـ وكان وجهه يتهلَّل ـ فقيل له: ما لوجهك يتهلَّل؟ فقال: ما لي من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً، وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين، فقد رمى بنفسه إِلى داخل الحديقة فانكسرت رِجلُه، فقاتل وهو مكسور الرِّجل حتَّى قتل .
6ـ عبَّاد بن بِشْرٍ:
من فضلاء الصَّحابة، عاش خمساً وأربعين سنةً، وهو الَّذي أضاءت عصاه ليلةً حين انقلب إِلى منزله، وكان قد سَمَر عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أسلم عبَّاد على يد مصعب ابن عمير، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف، واستعمله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على صدقات مُزينة، وبني سليم، وعلى حرسه بتبوك، وأبلى يوم اليمامة بلاءً حسناً، وكان من الشُّجعان، وعن عائشة، قالت: ثلاثةٌ من الأنصار لم يكن أحدٌ يعتد عليهم فضلاً، كلُّهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعبَّاد بن بشر . وعن عائشة، قالت: تهجَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمع صوت عبَّاد يصلي في المسجد فقال: «يا عائشة! هذا صوت عبَّاد؟» قلت: نعم! قال: « اللَّهُمَّ ارحم عبَّاداً ». وقد استشهد باليمامة.
ويحدِّثنا أبو سعيدٍ الخدريُّ عنه، حيث قال: سمعته يقول حين فرغنا من بُزاخة: يا أبا سعيد! رأيت اللَّيلة كأن السَّماء فرجت لي، ثم أطبقت عليَّ، فهي ـ إِن شاء الله ـ الشَّهادة. قلت: خيراً والله رأيت! وقد كان له يوم اليمامة مواقفُ مشهودةٌ، فقد وقف على نشزٍ مرتفعٍ من الأرض، ثمَّ صاح بأعلى صوته: أنا عبَّاد ابن بِشْر، يا للأنصار، يا للأنصار! ألا إِليَّ، ألا إِليَّ، فأقبلوا إِليه جميعاً، وأجابوه: لبيك، لبيك! ثمَّ حطَّم جفن سيفه، فألقاه وحطَّمت الأنصار جفون سيوفهم ثمَّ قال جملةً صادقةً: اتَّبعوني، فخرج حتَّى ساقوا بني حنيفة منهزمين، حتَّى انتهوا بهم إِلى الحديقة، فأغلق عليهم، ولمَّا تمكَّن المسلمون من اقتحام باب الحديقة، ألقى درعه على بابها، ثمَّ دخل بالسَّيف صلتاً يجالدهم، حتَّى قُتِل شهيداً باليمامة، وهو ابن خمسٍ وأربعين سنةً، ولم يعرف إِلا بعلامةٍ في جسده لكثرة ما فيه من الجراح ـ رضي الله عنه ـ .
وقد اشتهرت مواقف عباد بن بشر في اليمامة حتى أصبحت مضرب المثل، وبقيت بنو حنيفة تذكر عباد بن بشر، فإِذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول: هذا ضرب مجرب القوم عباد بن بشر.
لقد كان للأنصار مواقفُ عظيمة، وإِقدامٌ منقطع النَّظير في حروب الردَّة، وخصوصاً باليمامة، قد شهد للأنصار بالإِقدام والصَّبر في ذلك اليوم مُجَّاعة بن مرارة الحنفيُّ عند الخليفة «أبو بكر» فقال: يا خليفة رسول الله! لم أر قوماً قط أصبر لوقع السُّيوف، ولا أصدق كرَّةً من الأنصار . . . فلقد رأيتني، وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرِّفه قتلى بني حنيفة وإِنِّي لأنظر إِلى الأنصار وهم صرعى. فبكى أبو بكر؛ حتَّى بلَّ لحيته.
7ـ الطُّفيل بن عمرو الدَّوسي الأزديُّ:
استشهد باليمامة، وكان شريفاً، شاعراً، لبيباً، وقد رأى الرُّؤيا قبل استشهاده، حيث قال: خرجت، ومعي ابني عمرو، فرأيت كأنَّ رأسي حُلِقَ، وخرج من فمي طائرٌ، وكأنَّ امرأةً أدخلتني فرجها، فأوَّلتها: حَلْقُ رأسي: قطعه، وأمَّا الطَّائر: فروحي، وأمَّا المرأة: فالأرض أدفن فيها، فاستشهد يوم اليمامة.وقد استشهد كثيرٌ من المهاجرين والأنصار في هذه المعركة الفاصلة.
وكانت المدينة على الرَّغم من فرحها بانتصار المسلمين على المرتدِّين ما زالت تبكي شهداءها، ففي حرب اليمامة وحدها قتل من المسلمين مئتان وألف، منهم عددٌ من كبار الصَّحابة، وفيهم أكثر حفَّاظ القران: نحو أربعين من القرَّاء، وعصرت الأحزان قلب المدينة، وغمرت الدُّموعَ ابتساماتُ الفرح بالنَّصر، وضاقت الصُّدور، وثقلت المحنة على القلوب بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النُّفوس، وقوَّى من إِيمانهم، وغرس الثِّقة في أعماقهم.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي