من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2)
(العمارة والبناء في عهد عبد الملك)
الحلقة: 123
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ يناير 2021
1 ـ بناء واسط:
اختطَّها الحجّاج بن يوسف الثقفي في أرض كسكر ، وهي تتوسط عدة مدن، فهي تبعد عن الكوفة أربعين فرسخاً، وكذلك عن المدائن والأهواز والبصرة، وهي إحدى مدن العراق الكبرى قبل بناء بغداد ، وقد بدأ الحجّاج في بنائها عام 83 هـ، وانتهى منها سنة 86 هـ ، وكان شروعه في البناء بعد موافقة عبد الملك، وقد أنفق على بنائها خراج العراق كله لخمس سنوات ، كانت رؤية تخطيطها تتضح فيها الملامح الأساسية للتخطيط للمدينة الإسلامية، فاشتملت المدينة على المسجد ـ الجامع ـ ودار الإمارة في الوسط، وتضمينها الأسواق اللازمة لحياة مدينة مستقرة، وفيها كذلك الملامح الجديدة ما يعكس ملامح النظام الأموي الجديد.
ولعبت واسط دوراً سياسياً مهماً، فكانت المناظر المتصلة بينها وبين قزوين، وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهاراً، وإن كان ليلاً أشعلوا نيراناً، فتجرد الخيل إليهم، فكانت قزوين ثغراً ، فمنها كانت تتحرك الجيوش، وفيها ضربت النقود .
وازدهرت واسط من الناحية الاقتصادية فكثرت فيها المحلات التجارية، وتقدمت فيها الزراعة، وكانت عاصمة العراق في عهد الحجّاج.
2 ـ بناء تونس:
اختط هذه المدينة القائد حسان بن النعمان الغساني عام 82 هـ، لتكون قاعدة عسكرية بحرية، ولتحول دون تكرار البيزنطيين الهجوم على قرطاجة عام 78 هـ ، بنى حسان بن النعمان مدينة تونس على أنقاض قرية قديمة عرفت باسم ترشيش القديمة ، وإنما سميت تونس في أيام الإسلام لوجود صومعة الراهب، وكانت سرايا المسلمين تنزل بإزاء صومعته، وتأنس لصوت الراهب، فيقولون: هذه الصومعة تؤنس، فلزمها هذا الاسم فسميت باسم تونس .
واختط حسان تونس غربي البحر المتوسط بنحو عشرة أميال ، فقام بحفر قناة تصل المدينة بالبحر لتكون ميناء بحرياً ومركزاً للأسطول الإسلامي بعد أن أنشأ فيها صناعة المراكب بخبراء في هذه الصناعة زوده بهم والي مصر عبد العزيز بن مروان بناء على توجيه الخليفة عبد الملك .
وقد بنيت مدينة تونس طبقاً لأهداف سياسية استراتيجية، وأهداف اقتصادية اجتماعية تبناها الخليفة عبد الملك:
أما الأهداف السياسية البعيدة المدى، فيتضح ذلك بوضع حد لاعتداءات الروم والمتمثلة بإغارتهم على الساحل الإفريقي، والسبيل الأمثل هو إيجاد قاعدة بحرية، وصناعة بحرية قادرة على إنشاء أسطول مهمته صد العدوان الرومي بادئ الأمر، ثم الانتقال من مرحلة التصدي إلى الغزو والفتح فيما بعد، وقد تمثل تطبيق هذه المرحلة من قبل الخليفة عبد الملك، فقام بالإيعاز لشقيقه والي مصر: عبد العزيز بن مروان، لإرسال ألفي قبطي من مهرة الصناع لإقامة صناعة مراكب بحرية، وقام هؤلاء بالمهمة الموكلة إليهم خير قيام وأما الهدف الثاني: فيتمثل بإيجاد حياة اجتماعية بإيجاد المؤسسات القادرة على خدمة الأفراد، فأقام في المدينة المسجد الجامع ودار الإمارة وثكنات للجند للمرابطة، وأخذ يقوم بتدوين الدواوين ، وتنظيم الخراج والعناية بالدعوة الإسلامية بين البربر، فقام بإرسال الفقهاء ليعلموهم اللغة العربية والدين الإسلامي ، وسارت المدينة لتكون معسكراً حربياً في البداية، ومركز استيطان وإدارة لدعم الفتوحات، وأخيراً مركزاً حضارياً ومركز إشعاع فكري وعلمي وثقافي .
وهكذا رسخ الخليفة عبد الملك بن مروان أقدام الدولة الأموية بتأسيس مدينة تونس، وقطع دابر الغارات البيزنطية بإيجاد مدينة إسلامية مرتبطة بالأهداف العليا للدولة .
3 ـ بناء مسجد قبة الصخرة:
بنى هذا المسجد الخليفة عبد الملك بن مروان، وسماه الأوروبيون خطأ مسجد عمر، وقد رصد الخليفة لإعماره أموالاً طائلة ، قال ابن كثير: ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجَّه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغاً ولا يتوقفا فيه، فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت في أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وحفّاها بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداماً بأنواع الطيب والمسك والعنبر وماء الورد والزعفران، يعملون منه غاليه ويبخرون القبة والمسجد من الليل، وجعلا فيها من قناديل الذهب والفضة والسلاسل الذهبية والفضية شيئاً كثيراً، وفرشاها بأنواع البسط الملونة، وكانوا إذا أطلقوا البخور شمَّ من مسافة بعيدة، وقد عملوا فيها من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئاً كثيراً مما في الآخرة، فصوَّرا فيه صورة الصراط وباب الجنة وقدم رسول الله ﷺ ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك إلى زماننا...
وبالجملة فإن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظراً، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير وأنواع باهرة، ولما فرغ رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه، فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمئة ألف مثقال، وقيل: ثلاثمئة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما قد وهبته لكما، فكتبا إليه: إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا، فكتب إليهما: إذا أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث .
وهناك عدة أسئلة تطرح نفسها: ما سبب بناء هذا المسجد وبهذا الإتقان والإبداع؟ ولماذا تزامن مع حركة ابن الزبير في الحجاز؟
إن أول المؤرخين الذين حاولوا إيجاد التسويغ لبناء مسجد قبة الصخرة المشرفة هو اليعقوبي (ت 284 هـ) وقد ربط ذلك بالحكم والخلافة حينئذ، وأوجد صيغة مشتركة في التعامل بين السلطة الأموية والمجتمع، لأن معظم العالم الإسلامي كان قد بايع عبد الله بن الزبير بالخلافة (64 ـ 73 هـ) ما عدا إقليم الأردن ، فقد قال في كتابه: ومنع عبد الملك أهل الشام من الحج، وذلك لأن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة، فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض علينا، فقال: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله ﷺ قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس». وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله ﷺ وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء .
واليعقوبي راوي الأثر السابق مؤرخ شيعي إمامي كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية حتى لقب بالكاتب العباسي، وقد عرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية، فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه حسب تسلسل الأئمة عند الشيعة، ويسمي علي بالوصي. وعندما أرخ لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يضف إليهم لقب الخلافة؛ إنما: تولى الأمر فلان، ثم لم يترك واحداً منهم دون أن يطعن فيه، وكذلك كبار الصحابة، وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أخباراً سيئة، وكذلك عن خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعرض خبر السقيفة عرضاً مشيناً ، ادعى فيه أنه قد حصلت مؤامرة على سلب الخلافة من علي بن أبي طالب الذي هو الوصي في نظره، وطريقته في سياق الاتهامات ـ الباطلة ـ هي طريقة قومه من أهل التشيع؛ وهي إما اختلاق الخبر بالكلية ، أو التزيد في الخبر ، والإضـافة عليه، أو عرضه في غير سيـاقه ومحله حتى يتحرف معناه، ومن الملاحظ: أنه عندما ذكر الخلفاء الأمويين وصفهم بالملوك، وعندما ذكر خلفاء بني العباس وصفهم بالخلفاء، كما وصف دولتهم في كتابه البلدان باسم الدولة المباركة ، مما يعكس نفاقه وتستره وراء شعار التقية، وهذا الكتاب يمثل الانحراف والتشويه الحاصل في كتابة التاريخ الإسلامي، وهو مرجع لكثير من المستشرقين والمستغربين الذين طعنوا في التاريخ الإسلامي وسيرة رجاله، مع أنه لا قيمة له من الناحية العلمية؛ إذ يغلب على القسم الأول القصص والأساطير والخرافات، والقسم الثاني كتب من زاوية نظر حزبية، كما أنه يفتقد من الناحية المنهجية لأبسط قواعد التوثيق العلمي .
هذا هو اليعقوبي الذي اعتمده المؤرخون المتأخرون في روايته قصة بناء مسجد قبة الصخرة، أو مسجد بيت المقدس على حد تعبيره، وعلينا أن نتحفظ من رواية اليعقوبي الآنفة الذكر، ونعتبرها خارجة عن الإطار المقبول؛ لأنه لا يعقل رجل بمستوى عبد الملك في دهائه ومكره وعقله وفقهه يضع نفسه موضع شبهة الكفر، فيصد الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام ، هذا من ناحية العقل والمنطق، وأما من ناحية السند فقد بينا، ولم نسمع أن أحداً من خصوم الأمويين أوردوا ذلك في مطاعنهم على عبد الملك ـ سوى الشيعة ـ. كما أن الإمام الزهري لم يلتق بعبد الملك إلا بعد مقتل ابن الزبير، فقد نقل الذهبي عن الليث بن سعد أنه قال: قدِم ابن شهاب على عبد الملك سنة
اثنين وثمانين .
وقد نص على أن ابن الزبير قتل سنة 72 ه ، وبعد مقتله استوثقت الممالك لعبد الملك ، فليس هو في حاجة لمن يضع له أحاديث لصرف الناس عن الحج، والزهري لم يكن عند مقتل ابن الزبير ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية بحيث تتقبل منه حديثاً موضوعاً يلغي به فريضة الحج الثابتة بالقران والأحاديث الصحيحة؛ وذلك لصغر سنه، فإنه قد ولد بعد الخمسين من الهجرة ، وصداقته بعبد الملك وتردده عليه لا يقدح في أمانته ودينه.
وأما حديث شد الرحال فهو صحيح رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من العلماء، قال عنه ابن تيمية: وهو حديث مستفيض، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق ، ولم ينفرد الزهري رحمه الله برواية هذا الحديث حتى يتهم بوضعه، والحديث ليس فيه فضل قبة الصخرة، وليس فيه الدعوة إلى الحج إليها والطواف حولها بدلاً عن الكعبة كما يدعي بعض المزورين، وغاية ما فيه: فضل الصلاة في بيت المقدس وزيارته .
وأما الصخرة فقد ذكر ابن القيم أن كل حديث فيها فهو كذب مفترى ، وقد قام الدكتور حارث بن سليمان الضاري بنسف هذه الشبهة في كتابه القيم (الإمام الزهري وأثره في السنة) في ثلاث عشرة صفحة، وأتى بحجج دامغة قوية لمن يبحث عن الحقيقة العلمية، وسيأتي الحديث عن الإمام الزهري في عهد هشام بن عبد الملك بإذن الله تعالى.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com