من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
محمد بن القاسم الثقفي وفتح السند (89 ـ 96 هـ):
الحلقة: 137
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021
كان انتصار المسلمين في معركة القادسية في عهد عمر بن الخطاب إيذاناً لهم بفتح السند، فقد استنجد كسرى الفرس ببعض ملوك البلاد المجاورة؛ ومنها: مملكة السند؛ حيث أمده ملك السند بالمال والرجال، الأمر الذي اضطر المسلمين بمهاجمة السند رداً على تدخلهم ضدهم في معركة القادسية، ولذلك فإن البلاذري يحدثنا عن حملات إسلامية مبكرة على السند كان أولها في عهد عمر بن الخطاب، وكان ثانيها في عهدعلي بن أبي طالب، كما نفهم من رواية البلاذري: أن عثمان بن عفان كان أيضاً مهتمّاً بتقصي تحركات السند ، كما أن البلاذري يوضح الأسباب التي حولت هذه الحملات إلى فتح منظم للسند في الأسباب الاتية.
ـ اكتشاف تحالف اخر بين السند والترك؛ حيث لقي المهلب في عهد معاوية بن أبي سفيان ثمانية عشر فارساً من الترك ببلاد القيقان بالهند ، لذلك تلاحقت حملات معاوية فأغار عبد الله بن سوار وسنان بن سلمة بن المحبق الهذلي، فأتى الثغر ففتح مكران عنوة ومصَّرها وأقام بها .
ـ أعمال القرصنة البحرية التي كان يقوم بها الهنود؛ حيث يذكر البلاذري أن البوارج الهندية قد استولت على سفينة كانت تحمل نساء مسلمات أرسلهن ملك جزيرة الياقوت هدية إلى الحجاج بن يوسف، فنادت امرأة من تلك النسوة وكانت من يربوع: يا حجاج، وبلغ الحجاج ذلك فقال: يا لبيك، فأرسل إلى داهر يسأله تخلية النسوة. فقال: أخذهن لصوص لا أقدر عليهم ، لذلك أرسل الحجاج بن يوسف عبيد الله بن نبهان إلى الديبل (كراتشي اليوم) فقتل، فكتب إلى بديل بن طهفة البجلي وهو بعمان يأمره أن يسير إلى الديبل، لكن الهنود استطاعوا محاصرته وقتله أيضاً .
1 ـ تعيين محمد بن القاسم على ثغر الهند وتجهيزات الحجاج لجيشه:
تبدّى للحجاج مدى الإهانة التي تلحق بهيبة المسلمين وخطورتها إن هو سكت على هذا الأمر، فاختار محمد بن القاسم وكان بفارس، وكان قد أمره أن يسير إلى (الريّ)، فردّه إليه، وعقد له ثغر (السند)، وضمّ إليه ستة الاف من جند أهل الشام، وجهّزه بكلِّ ما احتاج اليه حتى الخيوط والإبر والمال، وأمره أن يقيم بشيراز حتى يكمل حشد رجاله ويوافيه ما أعدّ له ، واهتمّ الحجاج اهتماماً بالغاً في إنجاز استحضارات جيش محمد بن القاسم حتى بلغ بذلك حدّ الروعة حقاً؛ فلم ينس أصغر التفاصيل الإدارية لإكمال استحضارات هذا الجيش، حتى إنه عمد إلى القطن المحلوج فنُقع في الخل الأحمر الحاذق، ثم جُفِّف في الظل، وقال لهم: إذا صرتم إلى (السِّند) فإن الخل بها ضيِّق، فانقعوا هذا القطن في الماء، ثم اطبخوا به واصطبغوا. ويقال: إن محمداً لما صار إلى ثغر السِّند، كتب يشكو ضيق الخلِّ عليهم، فبعث الحجاج إليه بالقطن المنقوع في الخل.
2 ـ المعارك التي خاضها محمد بن القاسم:
مضى محمد إلى مكران، فأقام بها أياماً، ثم أتى فنزبور ففتحها، ثم أتى (أرمانيل) ففتحها أيضاً، فقدم (الديبل) يوم جمعة، فوافته هناك سفنه التي كانت تحمل الرجال والسِّلاح والعتاد والمهمات، فخندق حيث نزل (الديبل)، وأنزل الناس منازلهم، ونصب منجنيقاً يقال له: العروس، الذي كان يعمل لتشغيله خمسمئة من الرجال ذوي الكفاية المدربين على استخدامه، فدكّ بقذائفه معبد الهنادكة الأكبر (البد)، وكان على هذا البد دقل عظيم، وعلى الدقل راية حمراء إذا هبّت الريح أطافت المدينة، وحاصر محمد الديبل وقاتل حماتها بشدّة، فخرجوا إليه، ولكنه هزمهم حتى ردهم إلى البلد، ثم أمر بالسلالم فنصبت وصعد عليها الرجال، وكان أولهم صعوداً رجل من بني مراد من أهل الكوفة، ففتحت المدينة عنوة، فاستباحها محمد ثلاثة أيام، ولكنّ عامل (داهر) ملك السند عليها هرب عنها سالماً، فأنزل فيها محمد بن القاسم أربعة الاف من المسلمين، وبنى عليها جامعها، فكان أول جامع بني في هذه المنطقة، وسار محمد عن الديبل إلى النيرون ، وكان أهلها بعثوا إلى الحجّاج فصالحوه، فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم ووفوا بالصلح .
وسار محمد عن (نيرون)، وجعل لايمر بمدينة إلاَّ فتحها حتى عبر نهراً دون مهران، فأتاه أهل (سربيدس) ، وصالحوه، ففرض عليهم الخراج وسار عنهم إلى (سهبان)، ففتحها ثم سار إلى نهر (مهران) فنزل في وسطه، وبلغ خبره (داهر)، فاستعدّ لمجابهته ، وبعث محمد إلى (سدوستان)، فطلب أهلها الأمان والصلح، فأمنهم محمد وفرض عليهم الخراج أيضاً.
3 ـ مقتـل داهـر ملـك الهـنـد:
عبر محمد بن القاسم نهر (مهران) مما يلي بلاد الملك (راسل) ملك (قصة) من الهند على جسر عقده، و (داهر) مستخفٌّ به لاهٍ عنه، ولقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة، فاشتد القتال بشكل لم يسمع بمثله، وترجَّل (داهر) وقاتل حتى قتل عند المساء، فانهزم أصحابه وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا، فقال قاتل داهر :
الخيلُ تشهدُ يومَ داهرَ والقَنَا
أني فرجتُ الجمعَ غيرُ مَعردٍ
فتركتُه تحتَ العجاجِ مجندلاً
ومحمدُ بنُ القاسمِ بنِ محمدِ
حتَّى علوتُ عظيمَهم بمهنَّدِ
متعفرَ الخَدَّين غيرَ موسّدِ
فلما قُتل (داهر)، غلب محمد على بلاد السند، وفتح (راوَر)عنوة، وكان بها امرأة لداهر ، فحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها، وتقدم المسلمون بعد ذلك صوب الشمال مشرقين حتى بلغوا (برهمن اباد)العتيقة على فرسخين من المنصورة، وكان موضعها غيضة، وكان المنهزمون من أصحاب داهر بها، ففتحها محمد وقتل بها بشراً كثيراً وخرّبها، وسار محمد يريد(الرور) و(بغرور)، فلقيه أهل ساوندري، وسألوه الأمان، فأعطاهم إيـاه، واشترط عليهم ضيافة المسلمين، فأسلم أهلها من بعد ذلك ، وتقدم نحو (بسمد) ، على مثل صلح (ساوندري)، فسار عنها حتى انتهى إلى (الرور) وهي من مدائن السند تقع على جبل، فحاصرها شهوراً ثم فتحها صلحاً ، وسار محمد إلى (السكة) ، وفتحها، ثم عبر نهر (بَياس) رافد نهر السند إلى مدينة (المُلْتان)، أعظم مدن السند الأعلى وأقوى حصونه، فامتنعت عليـه شهوراً وقاتله أهلها، فانهزموا فحصرهم، فأتاه رجل مستأمن دلّه على مدخل الماء الذي يشرب منه السكان، فقطعـه عليهم، فنزلوا على حكمه، فقتل محمد المقاتلة وسبى الذرية وسبى سدنة (البد) وهم ستة الاف، وأصاب مالاً كثيراً جمعه في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه في كوّة في وسطه، فسميت (الملتان: فرج بيت الذهب) . وكان (بد) الملتان (بداً) تهدى إليه الأموال وتنذر له النذور ويحجّ إليـه السند فيطوفون به ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده، ويزعمون أنَّ صنماً فيه هو أيوب النبي ﷺ .
وعظمت فتوح محمد، فراجع الحجّاج حساب نفقاته على هذه الحملة، فكانت ستين ألف ألف درهم فقال: شفينا غيظنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر .
لقد أنجز محمد هذا الفتح كله في المدة بين سنة تسع وثمانين الهجرية وأربع وتسعين الهجرية .
4 ـ نهاية محمد بن القاسم:
بينما محمد بن القاسم يدبر أمر السند وينظم أحواله بعد الفتح، ويستعد لفتح إمارة قنوج وهي أعظم الإمارات في شمال الهند، توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ، وتولى أخوه سليمان (96 ـ 99 هـ) الذي بدأ يغير ولاة الحجّاج، فعين على العراق رجلاً من ألد أعداء الحجّاج، وهو صالح بن عبد الرحمن، الذي كان الحجّاج قد قتل أخاً له اسمه ادم بن عبد الرحمن كان يرى رأي الخوارج ، فقرر صالح بن عبد الرحمن أن ينتقم من أقرب الناس إلى الحجّاج، وهو محمد بن القاسم، فعزله عن السند وولى رجلاً من صناعه وهو يزيد بن أبي كبشة، وأمره بالقبض على محمد، فقبض عليه وأرسله إليه، فحبسه في واسط في رجال من ال أبي عقيل ، وقد ادعت ابنة ملك السند الذي قتله ابن القاسم أنه راودها عن نفسها أو نالها قسراً، ولذا فقد سجن في واسط وعُذِّب، ثم تضاربت الروايات بشأنه؛ فقيل: إنه مات تحت العذاب، وقيل: إنه أطلق سراحه ثم قتل، وقيل: بل قتل بدسائس من أتباع داهر فاتهم به الخليفة، ثم اعترفت ابنة داهر فيما بعد بأنها كانت كاذبة في ادعائها .
وهكذا انتهت حياة هذا البطل وهذا الفاتح الكبير هذه النهاية الأليمة، وحرمت الأمة الإسلامية من هذه العبقرية الشابة، فإن محمداً حقق هذه الأمجاد وهو في مقتبل العمر، حتى قال فيه الشاعر:
إنَّ الشجاعةَ والسماحةَ والنَّدى
لمحمدِ بـنِ القاسمِ بـنِ محمدِ
قادَ الجُيوشَ لسبعَ عشْرَةَ حجةً
يا قربَ ذلكَ سؤدداً من مولدِ
وقد ساس الجيوش وقادها وعمره سبع عشرة سنة؛ قال فيه الشاعر يزيد بن الأعجم:
ساسَ الجيوشَ لسبعَ عشرةَ حجةً
ولداتُهُ عن ذاكَ في أشغالِ
فغدتْ بهم أهواؤُهم وسمتْ بِهِ
هممُ الملوكِ وسورةُ الأبطالِ ِ
وكان محمد بن القاسم يهتف في أعماق سجنه وفي ظلماته:
أتنسى بنـو مروانَ سمعِي وطاعَتِي ً
وإنِّـي على مـا فاتني لصَبُورُ
فتحتُ لهُـمْ مـا بينَ (سابورَ) بالقَنا ً
إلى الهنـدِ منهم زاحفٌ ومغيرُ
فتحتُ لهـم مـا بينَ جُرجانَ بالقنا
إلى الصينِ ألقى مـرَّةً وأغيرُ
وما وطئتْ خيلُ السكاسِكِ عَسْكري
ولا كانَ مِنْ (عكٍّ) عليَّ أميرُ
مات محمد بن القاسم بالتعذيب، أو قتل بعد تعذيبه، دون أن يشفع لهذا القائد الشاب بلاؤه الرائع في توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ولا مهارته الفذة في القيادة والإدارة، ولا انتصاراته الباهرة في السند، ولكنَّ اثاره الخالدة وأعماله المجيدة باقية بقاء الدهر، ولم يختره الله إلى جواره إلا بعد أن أبقى اسمه على كلِّ لسان وفي كل قلب، رمزاً للجهاد الصادق والتضحية الفذّة والصبر الجميل.
أما الذين عذبوه فقد ماتوا وهم أحياء، ولانزال حتى اليوم نذكر محمد بن القاسم بالفخر والاعتزاز، ونذكر الذين عذّبوه بالخزي والاشمئزاز ، رحم الله محمد بن القاسم الشاب المظلوم، الأمير العادل، الإداري الحازم، لقد بكاه أهل السند من المسلمين، لأنه كان يساويهم بنفسه ولا يتميز عليهم بشيء، ويعدل بالرعية، ولأنه نشر الإسلام في ربوعهم فأرسل دعاته شرقاً وغرباً يجوبون البلاد التي فتحها، وكان أكثر من هداهم الله إلى الإسلام من أهل السند على يديه ، فمنذ الخطوات الأولى للفتح بدأت شخصيات كبيرة تعتنق الإسلام.
فعندما فتح محمد بن القاسم مدينة الديبل واستولى على قلعتها التي كان بها الأسرى من الجنود والتجار المسلمين والنساء المسلمات، وقتل حرّاس القلعة بناء على أوامر الحجّاج انتقاماً لشهداء المسلمين، عندئذ جاء مدير السجن الذي كان به المسلمون طالباً العفو عنه لأنه كان محسناً للأسرى المسلمين ويعاملهم معاملة كريمة، فلما تأكد محمد بن القاسم من صدقه عفا عنه، بل فوض إليه مهمة الإشراف على الشؤون الاقتصادية بمدينة الديبل، ثم أعلن الرجل إسلامه، فقرَّبه محمد أكثر، وعينه مترجماً لرئيس الوفد الذي أرسله إلى داهر ملك السند لتوجيه الإنذار إليه.
وعندما تقدم محمد بن القاسم في السند، بعد فتح الديبل، وجه الدعوة إلى الأمراء والحكام والوزراء والأعيان وعامة الشعب للدخول في الإسلام، فاستجاب له كثيرون وبصفة خاصة من البوذيين .
وقد كان لسلوك المسلمين وقائدهم الشاب، واهتمامه بإقامة المساجد وأداء شعائر الإسلام، أثر كبير في جذب الأهلين إلى الإسلام، فلم يكن محمد بن القاسم يدخل مدينة إلا ويبني فيها مسجداً ، فقد بنى مساجد في الديبل والرور والبيرون والملتان وغيرها من المدن السندية ، فرحمة الله على هذا الفاتح الكبير.
5 ـ السند بعد محمد بن القاسم:
توقفت الفتوحات في هذه الجبهة عند الحدود التي وصل إليها محمد بن القاسم، ولم يستطع ولاة بني أمية ـ فيما تبقى من عمر دولتهم ـ أن يضيفوا جديداً، ولكنهم استطاعوا المحافظة على ما تحقق من فتوحات، وبذلوا قصارى جهدهم في تثبيت أقدام الإسلام في إقليم السند، ووقفوا بالمرصاد لكل حركات التمرد والثورات التي قام بها الأمراء الهندوس، بعد رحيل محمد بن القاسم، فقد حاول هؤلاء الأمراء استرداد إماراتهم، وبصفة خاصة ابن داهر المسمى حليشة أو جيشبة، الذي حاول الرجوع إلى برهمن اباد، ولكن حبيب بن المهلب ـ الذي ولاه سليمان بن عبد الملك السند ـ لم يمكنه من ذلك .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com