من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2)
(ولاية العهد وموقف سعيد بن المسيب منها)
الحلقة: 139
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021
عقد مروان بن الحكم ولاية العهد لابنيه عبد الملك ومن بعده عبد العزيز بعد عودته من مصر وبعد وفاته سنة 65هـ، تولى عبد الملك الحكم وكانت العلاقة التي تربط بين الخليفة وأخيه وولي عهده عبد العزيز يسودها الصفاء، ولم يتوانَ الأخير في خدمة الخلافة طيلة حياته، وبعد أن مضى ما يقارب عشرين سنة على هذه الحال بدأت تظهر فكرة تحويل ولاية العهد من عبد العزيز إلى الوليد وأخيه سليمان ابني الخليفة، وقد تباينت الروايات في ذكرها لمن أشار بأمر الخلع، ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف فعلى ما يبدو أن الخليفة عبد الملك بعد أن ظهرت هذه الفكرة لديه كتب إلى أخيه يطلب منه أن يتنازل عن ولاية العهد لابنيه الوليد وسليمان، فأبى عبد العزيز، وأراد عبد الملك أن ينتقم من عبد العزيز ويضيق عليه ، فكتب عبد العزيز إلى أخيه: يا أمير المؤمنين إني وإياك قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً. وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولاً؛ فإن رأيت ألا تغثث علي بقية عمري فافعل. فقال الخليفة عبد الملك: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، وقال لابنيه: إن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك.
وحسم موت عبد العزيز الخلاف مع أخيه، وعقد عبد الملك بيعة ولاية العهد للوليد وسليمان من بعده، وأمر ولاته في جميع الأمصار بأخذ البيعة لهما، فكان موقف سعيد بن المسيب هو الامتناع عن البيعة لأن ذلك التزام بسنة النبي ﷺ في نظره؛ لأنه نهى عن البيعة لاثنين، فلا بد من تنفيذ ذلك، مهما كلفه الامتناع من ثمن باهظ. قال عمران بن عبد الله: دعي سعيد للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان فقال: لا أبايع لاثنين ما اختلف
الليل والنهار. قال: فقيل له: ادخل من الباب واخرج من الباب الاخر، قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس.
وكان حجة سعيد بن المسيب في امتناعه عن البيعة أنه لا يجوز أن يبايع لاثنين بالخلافة في ان واحد . وقال عبد الرحمن بن عبد القاري، لسعيد بن المسيب، حين قدمت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة من بعد أبيهما: إني مشير عليك بخصال ثلاث، قال: وما هي؟ قال: تعتزل مقامك، فإنك هو وحيث يراك هشام بن إسماعيل ـ والي المدينة ـ قال: ما كنت لأغيّر مقاماً قمته منذ أربعين سنة. قال: تخرج معتمراً؟ قال: ما كنت لأنفق مالي، وأجهد بدني في شيء ليس فيه نية. قال: فما الثالثة ؟ قال: تبايع. قال: أرأيت إن كان الله أعمى قلبك، كما أعمى بصرك. قال: فما عليَّ وكان أعمى ـ قال رجاء بن جميل الإيلي: فدعاه هشام إلى البيعة، فأبى فكتب فيه إلى عبد الملك، فكتب إليه عبد الملك: ما لك ولسعيد ؟! ما كان علينا منه شيء نكرهه، فأما إذا فعلت، فاضربه ثلاثين سوطاً، وألبسه تُبَّان شعر، وأوقفه للناس.
وكان للفقيه الكبير قبيصة بن ذؤيب دور في ندم الحكام على صنيعهم، ولام الخليفة على ما فعل بابن المسيب، وتم إخلاء سبيله من السجن من قبل والي المدينة الذي سجنه وجلده .
فهذا هو موقف سعيد بن المسيب وتمسكه بفتواه؛ فقد رفض بشدة الخضوع للسلطان وخداع الأمة، فهو يرى أن امتناعه عن البيعة، إذا لم يعلمه الناس فلا جدوى منه، فلابد للعالم والفقيه أن يبين ما يحدد موقفه . وكان سعيد بن المسيب عنده أمر عظيم من بني أمية وسوء سيرتهم، وكان لا يقبل عطاءهم .
وقد اختلف المؤرخون في أمر سعيد بن المسيب، بأن والي المدينة هو الذي عرض سعيد للعقوبة بدون أمر عبد الملك، والبعض الاخر قال: بأن عبد الملك هو الذي أمر، فالذي يهمنا هنا هو موقف سعيد من ولاية العهد للوليد وسليمان، وتعرضه للعقوبة والمحنة؛ مما زاد من حدة الخلاف بينه وبين بني مروان، وأسهم في توسيع الفجوة
في علاقته بهم وولاتهم ، وكانت له مواقف صلبة أمام عبد الملك وابنه الوليد من بعده .
ويلحظ المتمعن في خلاف سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ لبني أمية وولاتهم ـ التزامه باداب جمة؛ يجدر الوقوف عندها وتأملها للإفادة منها؛ ومن أهم تلك الاداب ما يلي:
1 ـ إنه على الرغم مما حدث بينه وبين بعض خلفاء بني أمية وولاتهم، فإنه يعترف بإمامتهم وشرعية خلافتهم، فهو يعترف لعبد الملك بن مروان وابنه الوليد بإمرة المؤمنين، كما ورد ذلك في قوله لحاجب عبد الملك حين دعاه لمقابلة عبد الملك، فقال سعيد: ما لأمير المؤمنينحاجة. وكذلك قالها للوليد حين قدم الوليد المدينة ودخل المسجد مع عمر بن عبد العزيز، ودار فيه مع عمر حتى قربا من سعيد بن المسيب ووقفا عليه، فقال الوليد لسعيد: كيف أنت أيها الشيخ؟ فقال سعيد: بخير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس، فقال عمر: أجل يا أمير المؤمنين .
كما أنه على الرغم ممّا صنع به والي المدينة ـ هشام بن إسماعيل ـ فإنه كان يصلي خلفه، وكل ما فعله مقابل إساءته له أن قال: الله بيني وبين من ظلمني، أو اللهم انصرني من هشام، وكان يمتثل أوامرهم فيه، فحين أخرج من السجن نهوا أن يجالسه أحد، فكان إذا أراد أحد أن يجالسه قال: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني.
2 ـ ومن أدب خلافه: أنه لم يشغل نفسه بسب بني أمية أو ولاتهم، أو التعرض لهم بالقدح وإثارة الناس عليهم، فحين قيل له: ادع على بني أمية، قال: اللهم أعز دينك وأظهر أولياءك، وأخزِ أعداءك في عافية لأمة محمد ﷺ.
3 ـ كما لم يدفعه كرهه لبني أمية أن يضع يده مع كل معارض لهم ويسعى لتأييده نكاية للأمويين.
4 ـ كما أنه على الرغم من كرهه القرب من خلفاء بني أمية؛ لاسيما بني مروان منهم، وربما انتقاده لبعض العلماء الذين خالطوهم كقبيصة بن ذؤيب والزهري، على الرغم من ذلك إلا أن كرهـه لهذا العمل من العلماء لم يمتد ليشمل نظرتـه وتقويمه لهم، بل كان يقدر لهم عملهم واجتهادهم، فروي عنه قوله في الزهري: ما مات من ترك مثلك. فانظر إلى هذا الأدب في الخلاف بين العلماء حين يختلفون في قضية من القضايا أو موقف من المواقف، فإنه لا يمتد هذا الخلاف ليفسد ذات بينهم أو يشعل فتيل التهم فيما بينهم .
وقد استطاع عمر بن عبد العزيز حين تولى الحجاز في عهد الوليد أن يحسن التعامل مع العلماء بشكل عام، وقدر لهم قدرهم وجعلهم مستشاريه، وخص سعيداً بمزيد من التقدير والاحترام، ونتيجة لحسن معاملة عمر بن عبد العزيز له تجاوب سعيد معه، قال ابن كثير: وكان سعيد لا يأتي أحداً من الخلفاء، وكان يأتي عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة، ومرة أرسل عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى سعيد ليسأله في مسألة، فأخطأ الرسول فدعاه، فلما جاء سعيد قال عمر: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك . فانظر كيف كان حرص عمر على تقديره، وانظر أيضاً كيف سارع سعيد إلى المجيء إليه تقديراً له .
كان عالم المدينـة وسيد التابعين مدرسـة في الأخلاق والقيـم والمبادأى، ومن حياته يستفاد دروس وعبر وفوائد؛ منها:
1 ـ تـزويجـه ابنتـه:
كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه ، وزوّج سعيد ابنته لابن أبي وداعة أحد تلاميذه؛ فعن ابن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيِّب، ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: تُوُفِّيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوِّجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: أنا، فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم تحمَّد، وصلَّى على النبي ﷺ، وزوّجني على درهمين ـ أو قال: ثلاث ـ فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين. فصليتُ المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائماً، فقدمت عشائي أُفطر وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يُقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد. فأفكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيِّب، فإنه لم يُر أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إليَّ فاتيك؟ قال: لا أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب، وردَّ الباب. فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظلِّ السراج لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاؤوني، فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمي، فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أُصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله ﷺ، وأعرفهم بحق زوج، فمكثت شهراً لا اتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته فسلَّمت، فردَّ عليَّ السلام، ولم يُكلمني حتى تقوَّض المجلس، فلما لم يبقَ غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا. فانصرفت إلى منزلي، فوجَّه إليَّ بعشرين ألف درهم.
2 ـ معـرفتـه بتـأويـل الـرؤى:
كان سعيد من أعبر الناس للرؤيا، أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصِّديق، وأخذته أسماء عن أبيها ، وعن عمر بن حبيب بن قُليع قال: كنت جالساً عند سعيد بن المسيِّب يوماً، وقد ضاقت بي الأشياء ورهقني دين، فجاءه رجل، فقال: رأيت كأنِّي أخذت عبد الملك بن مروان، فأضجعته إلى الأرض، وبطحته فأفندت في ظهره أربع أوتاد. قال: ما أنت رأيتها، قال: بلى. قال: لا أخبرك أو تخبرني، قال: ابن الزبير راها، وهو بعثني إليك، قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك، وخرج من صُلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة. قال: فرحلت إلى عبد الملك بالشام فأخبرته، فسُرَّ، وسألني عن سعيد بن المسيِّب وعن حاله فأخبرته وأمر بقضاء ديني وأصبت منه خيراً .
وعن إسماعيل بن أبي حكيم، قال: قال رجل: رأيت كأنّ عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد النبي ﷺ أربع مرار. فذكرت ذلك لسعيد بن المسيِّب، فقال: إن صدقت رؤياك قام فيه من صلبه أربعة خلفاء .
وعن عمران بن عبد الله، قال: رأى الحسن بن علي كأن بين عينيه مكتوب فاستبشر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}، وأهل بيته، فقصُّوها على سعيد بن المسيِّب، فقال: إن صدقت رؤياه فقلَّ ما بقي من أجله، فمات بعد أيام .
3 ـ من كلام سعيـد بن المسـيب:
قال: ما أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء، ثم قال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة قد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: ما شيء أخوف عندي من النساء ، وقال: لا تقولوا مصيحف ولا مسيجد، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل ، وقال: لا خير في من لا يُريـد جمع المال من حلِّـه، يعطـي منـه حقه، ويكف به وجهه عن الناس ، فقال: من استغنى بالله، افتقر الناس إليـه . وقال: برد
مولى ابن المسيب لسعيد بن المسيب: ما رأيت ما أحسن ما يصنع هؤلاء! قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه حتى يصلي العصر. فقال: ويحك يا برد ! أما والله ما هي العبادة، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله . وقال: ما خفت على نفسي شيئاً مخافة النِّساء، قالوا: يا أبا محمد إنَّ مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء، فقال: هو ما أقول لكم. وكان شيخاً كبيراً أعمش .
4 ـ دعاء مستجاب:
عن علي بن يزيد قال: قال لي سعيد بن المسيِّب: قل لقائدك يقوم، فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فقام، وجاء فقال: رأيت وجه زنجيٍّ وجسده أبيض. فقال سعيد: إن هذا سبَّ طلحة والزبير وعلياً رضي الله عنهم، فنهيته، فأبى، فدعوت الله عليه، قلت: إن كنت كاذباً فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه.توفي رحمه الله عام 94 هـ، وسميت السنة التي مات فيها سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها. ولما اشتد به الوجع دخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأغمي عليه، فقال نافع: وجِّهوه، ففعلوا، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة ؟ أنافع؟ قال: نعم. قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com