من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(وصيـة عبد الملك لأولاده ووفاتـه)
الحلقة: الأربعون بعد المائة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021
لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من قصره، فلما فتحت سمع قصاراً ـ أي: غسالاً ـ بالوادي، فقال: ما هذا ؟ قالوا: قصار، فقال: يا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فلما بلغ ذلك سعيد بن المسيِّب قال: الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم .
1 ـ ولما حضره الموت جعل يندم ويندب ويضرب بيده على رأسه ويقول: وددت لو أكتسب قوتي يوماً بيوم، واشتغلت بعبادة ربي .
2 ـ وقيل له لما حضره الموت: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: [الأنعام: {وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ } [سورة الأنعام:94]}
3 ـ وقيل: إنه لما حضرته الوفاة دعا بنيه فوصاهم فقال: الحمد لله الذي لا يسأل أحداً من خلقه صغيراً أو كبيراً، ثم أنشد:
فهل من خالدٍ إما هالكناُ
وهل بالموتِ للباقين عارُ
وقيل: إنه قال: ارفعوني، فرفعوه حتى شم الهواء، وقال: يا دنيا ما أطيبك؟! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا بك لفي غرور، ثم تمثل بهذين البيتين:
إن تناقشْ يكنْ نقاشُك يا ربِّ
أو تجاوزْ فأنتَ ربٌّ صفوحٌ
عذاباً لا طوقَ لي بالعذابِ
عن مسيءٍ ذنوبُهُ كالتُّرابِ
وخطب عبد الملك يوماً خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامحُ بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك القول زاهد العراق الحسن البصري فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام ، وقال الشعبي: خطب عبد الملك، فقال: اللهم إن ذنوبي عظام وهي صغار في جنب عفوك يا كريم، فاغفرها لي .
4 ـ جاء ابنه الوليد بباب المجلس وهو غاصٌّ بالنساء، فقال: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ قيل له: يُرجى له العافية وسمع عبد الملك ذلك، فقال:
وكم سائلٍ عنَّا يريدُ لنَا الرَّدَى
وكم سائلاتٍ والدموعُ ذوارِفُ ُ
ثم أمر النساء، فخرجن، وأذن لبني أمية فدخلوا عليه وفيهم خالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية، فقال لهما: يا بني يزيد ! أتحبان أن أقيلكما بيعة الوليد؟
قالا: معاذ الله يا أمير المؤمنين ! قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه. ثم خرجوا عنه واشتد وجعه، فتمثل ببيت أمية بن الصَّلت:
ليتَنِي كنتُ قبلَ ما قَدْ بَدَا لي
في قلالِ الجبالِ أرعى الوُعُولا
1 ـ وصية عبد الملك لابنه الوليد عند موته تدل على حزمه:
لما احتضر عبد الملك دخل ابنه الوليد فبكى، وقال له عبد الملك: ما هذا؟ أتخن خنين الجارية والأمة، إذا مت فشمر واتزر، والبس جلد النمر، وضع الأمور عند أقرانها واحذر قريشاً:
1 ـ يا وليد: اتقِ الله فيما استخلفك فيه، واحفظ وصيتي.
2 ـ انظر إلى أخي معاوية، فصِلْ رحمه واحفظني فيه.
3 ـ وانظر إلى أخي محمد، فأمِّرْه على الجزيرة ولا تعزله عنها.
4 ـ انظر إلى ابن عمنا علي بن عباس، فإنه قد انقطع إلينا بمودته ونصيحته، وله نسب وحق، فصل رحمه، واعرف حقه.
5 ـ وانظر إلى الحجّاج بن يوسف فأكرمه، فإنه هو الذي مهَّد لك البلاد، وقهر الأعداء، وخلص لك الملك وشتت الخوارج.
6 ـ وأنهاك وإخوتك عن الفرقة، وكونوا أولاد أم واحدة، وكونوا في الحرب أحراراً، وللمعروف مناراً، فإن الحرب لم تدنِ منية قبل وقتها، وإن المعروف يشيد ذكر صاحبه، ويميل القلوب بالمحبة، ويذلل الألسنة بالذكر الجميل، ولله در القائل:
إنَّ الأمـورَ إذا اجتمعْنَ فـرامها
عزَّتْ فلم تُكْسَرْ وإن هي بُدِّدَتْ
و بالكسرِ ذو حنقٍ وبطشٍ مفندِ
فالكسرُ والتوهينُ للمتبـددِ
7 ـ ثم قال: إذا أنا مت فادعُ الناس إلى بيعتك، ومن أبى فالسيف، وعليك بالإحسان إلى أخواتك فأكرمهن، وأحبهن إليَّ فاطمة، وكان قد أعطاها قرطي مارية، والدرة اليتيمة، ثم قال: اللهم احفظني فيها ، وكان قد تزوجها عمر بن عبد العزيز وهو ابن عمها.
2 ـ وصيته لبنيه:
لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة دعا بنيه، فأوصاهم فقال:
1 ـ يا بني: أوصيكم بتقوى الله، فإنها أحصن كهف وأزين حلة، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير.
2 ـ وإياكم والاختلاف والفرقة، فإنها بها هلكة الأولين قبلكم، وذل ذي العدد والكثرة.
3 ـ وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه؛ فإنه جنتكم الذي به تستجنون، ونابكم الذي عنه تفترون.
4 ـ أكرموا الحجّاج، فإنه وطأ لكم المنابر، وكونوا عند القتال أحراراً، وعند المعروف مناراً، وكونوا بني أم بررة، احلولوا في مرارة، ولينوا في شدة. ثم رفع رأسه إلى الوليد فقال:
5 ـ يا وليد: لا ألفينَّك إذا وضعتني في حفرتي تمسح عينيك وتعصرهما فعل الأمة، ولكن إذا وضعتني في حفرتي فشمر واتزر، والبس جلد النمر، ثم اصعد المنبر فادعُ الناس إلى البيعة، من قال برأسه كذا، فقل بالسيف كذا .
3 ـ وفاته ودفنه:
كان عبد الملك يقول: ولدت في رمضان، وفطمت في رمضان، وختمت القران في رمضان، وأتتني الخلافة في رمضان، وأخشى أن أموت في رمضان، فلما دخل شوال وأمن مات ، مات بدمشق سنة 86 هـ يوم الجمعة، وقيل: الأربعاء، وصلى عليه ابنه الوليد ولي عهده من بعده.
وكان عمره يوم مات ستين سنة، وقيل: ثلاث وستين سنة، وقيل: ثماني وخمسين سنة، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير ، وكان نقش خاتمه (امنت بالله مخلصاً) ، وانفرد بالخلافة منذ مقتل ابن الزبير إلى وفاته، والصحيح أنه لما مات كان عمره ستين سنة، حيث ولد عام ستة وعشرين هجرية.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com