الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

تأملات في الآية الكريمة {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 235

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1444ه/ مارس 2023م

 

ذكر الله تعالى أنموذجاً باقياً دالاً على إمامة إبراهيم - عليه السّلام - وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركناً من أركان الإسلام حاطاً للذنوب والآثام، وفيه من آثار الخليل وذريته ما عرف به إمامته وتذكرت به حالته(1).

 

‌أ- {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ}:

{وَإِذْ} للظرفية، وهي متعلقة بمحذوف تقديره "اذكر" يعني: اذكر يا محمد للناس هذا الأمر الذي صيرناه للناس، {جَعَلْنَا} أي: صيرنا، {الْبَيْتَ}: "الـ" هنا للعهد الذهني، والمراد به الكعبة لأنّها بيت الله عزّ وجل، وأتى هنا بـــــ "الــ" التفخيم والتعظيم يعني: البيت المعهود الذي لا يجهل(2)

وسمّيت الكعبة بذلك لتكعيبها، أي تربيعها ولارتفاعها ونتوئها، وارتفاع ذكرها في الدنيا واشتهار أمرها في العالم، ولذلك يقولون لمن عظم أمره: فلان علا كعبه(3).

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عدة أسماء للكعبة من هذه الأسماء: البيت العتيق، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ]الحج:29[، وسبب تسميته بالبيت العتيق قيل في عدة أسباب منها:

- لأنَّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة.

- أنَّ العتيق بمعنى القديم.

- أنّه لم يملك قط.

- لأنّه أعتق من الغرق زمن الطوفان(4).

وسمّيت مكة ببكة، حيث قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ..}، وسبب التسمية، ذكر العلماء أقوالاً منها:

- لازدحام الناس عندها، والمعنى هو الزحم، إذ يُقال: بك فلان فلاناً إذا زحمه وصدمه، فهو يبكه بكا، وسميت البقعة بفعل المزدحمين بها(5).

- لأنّها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله(6).

- لأنّها تقع من نخوة المتجبرين، يقال بككت الرجل أي وضعت منه، ووردت نخوته بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها(7).

ومن أسمائها المسجد الحرام قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ]البقرة:144[(8).

ومن أسمائها أم القرى؛ لشرفها وعلو كعبها على باقي القرى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ]الشورى:7[، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ]الأنعام:92[، وسمّيت بأم القرى؛ لتقدمها على سائر القرى، وسميت بذلك لأنَّ الأرض منها دحيت وعنها حدثت فصارت أماً لها لحدوثها عنها، كحدوث الولد عن أمه، وسمّيت كذلك بالبلد الأمين: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}(9).

 

ب‌- {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا }

أيّ: مرجعاً ومعاداً، كلما انصرفوا منه اشتاقوا إليه، فعادوا وثابوا إليه في الحج والعمرة والعبادة فلا ينقضي منه الوطر ولا تشبع منه النفوس، ويثوبون إليه أيضاً في الصلاة بقلوبهم ويتوجهون إليه بأجسادهم ويتذكرونه في كل يوم وليلة(10).

ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}؛ تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة، بيت مأخوذ من البيتوتة، وهو المأوى الذي تأوي إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك، ولذلك سّميت الكعبة بيتاً؛ لأنّها في المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله، ومثابة يعني مرجعاً تذهب إليه وتعود ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يجب أن يرجع مرات ومرات، إذن فهو مثابة؛ لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربّه، وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته(11).

تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن، ولا تتذكر أولادك ولا شؤون دنياك، ولو ظلت جاذبية بيت الله تعالى في قلوب الناس مستمرة؛ لتركوا كل شؤون دنياهم ليبقوا بجوار البيت، ولذلك كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حريصاً على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة.

ومن رحمة الله سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه؛ لأنَّ الحجيج في بيت ربهم وكلما كربهم شيء أو همهم شيء، توجهوا إلى ربّهم وهم في بيته، فيذهب عنهم الهمّ والكرب، ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ]إبراهيم:37[، أفئدة وليست أجساماً، وتهوي أي يلقون أنفسهم إلى البيت، إن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله؛ ليمحو الله سبحانه ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة(12).

و{وَأَمْنًا} أي: جعلناه آمناً يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم، ويأمن فيه حتى الصيد والأشجار أن تقطع وهو محل آمن لمن يسكنه، وكان الرجل في الجاهلية يرى قاتل أبيه وأخيه في الحرم، فلا يتعرض له وكانوا لا يُغيرون على مكة مع شركهم، ولأجل توفير الأمن فيه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم على حمل السلاح في مكة المكرمة فقال: لا يُحمل فيها سلاح لقتال(13).

 

مراجع الحلقة الخامسة والثلاثون بعد المائتين:

(1) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص91.

(2) قصص القرآن، محمد صالح بن العثيمين، ص61.

(3) بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص30.

(4) مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي، ، ص243.

(5) زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، (1/344).

(6) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (2/57).

(7) زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، (1/343).

(8) بيت الله الحرام الكعبة، محمد عبد الله، ص31.

(9) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص186.

(10) تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص217.

(11) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (1/575).

(12) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (1/576).

(13) صحيح مسلم، رقم (1374)، تفسير الزهراوين البقرة وآل عمران، محمد صالح المنجد، ص217.

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022