(قيام الليل سنة مؤكدة)
اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)
الحلقة: الخامسة عشر بعد المائة
شوال 1444ه/ مايو 2023م
من الزمن ما يحيا، ومن الزمن ما يموت، وكما أنَّ من الناس الذين يعيشون معنا أحياءً وهم أموات، ومنهم أحياء وهم أموات، فكذلك البلدان والأحياء والقرى منها الحي ومنها الميت، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحيي ليله بالإيمان والطاعة، كما كان المشركون يُميتون لياليهم بالكفر والمعصية، لهذا وصف الله تعالى ليل المتقين فقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17، 18].
لذلك قرَّر الفقهاء أنَّ قيام الليل سنة مؤكدة، واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجاء الحث عليها والترغيب فيها في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
أمَّا الآيات القرآنية، فمنها قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. وإن كان هذا الأمر خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلَّا أن أمته يدخلون فيه بحكم أنهم مطالبون بالاقتداء به.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:15-16]. فشهد سبحانه بالإيمان لمن يترك مضجعه ويقوم لعبادة ربه سبحانه.
ومنها قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9]، فنفى سبحانه التسوية بين القانتين آناء الليل وغيرهم ممن لم يتصف بصفتهم.
ومنها قول تعالى في وصف عباد الرحمن الذين شرفهم الله بالانتساب إليه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63-64]. فخوف جهنم وخوف العذاب وخوف الحجاب عن الله عزَّ وجلَّ، هو الذي أطار النوم من أعين هؤلاء، وجعلهم يبيتون لربهم سجَّدًا وقيامًا، مناجين داعين متضرعين، قائلين ما قال الصالحون:
سهر العيون لغير وجهك باطلٌ وبكاؤهن لغير فقدك ضائع
ومنها قوله تعالى عن المتقين المحسنين المستحقين لخيره ورحمته: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:15-18].
أمَّا الأحاديث النبوية الواردة في الحث على قيام الليل والترغيب فيه، فكثيرة جدًّا، منها:
- عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنعُ هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدَّمَ من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحبُّ أن أكون عبدًا شكُورًا".
- وعن المغيرة رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورا؟".
وهذا يكشف عن مدى عناية النبي صلى الله عليه وسلَّم بقيام الليل.
وقد قال عبد الله بن رواحة في ذلك:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبَه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
وقال شوقي رحمه الله في قيامه صلى الله عليه وسلَّم:
مُحيِي الليالي صلاةً لا يُقَطِّعُهَا إلَّا بدمع من الإشفاق مُنْسَجِمِ
مُسبِّحَا لك جُنحَ الليل مُحتملًا ضُرًّا من السُّهد أو ضُرًّا من الورم
رضيَّةً نفسه لا تشتكي سأمًا وما مع الحبِّ إن أخلصتَ من سَأَمِ
- وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِبَلَهُ، فجئت في الناس، لأنظر، فلما تبيَّنتُ وجْهَهُ عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أول شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال: "يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناسُ نيام، تدخلوا الجنة بسلام". فقيام الليل من أعظم أسباب دخول الجنة، بل هو من أعظم أسباب رفع الدرجات في غرف الجنة.
- عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجنة غُرفًا يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألانَ الكلام، وتابع الصيام، وأفشى السلام، وصلَّى والناس نيام".
- وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة إلى ربكم، ومكفِّر للسيئات، ومنهاة للآثام".
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل".
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) ص 307-305