الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

(صلاة الاستخارة)

اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)

الحلقة: السادسة و العشرون بعد المائة

ذو القعدة 1444ه/ يونيو 2023م

 

ومن الصلوات المسنونة: صلاة الاستخارة.

ومعنى الاستخارة: طلب الخِيَرة في الشيء. يقال: استخر الله يخِرْ لك. وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها.

حكم الاستخارة:

أجمع العلماء على أن الاستخارة سُنَّة، لما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقْدِر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر- ثم يسميه بعينه- خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عنِّي، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به". قال: "ويُسمِّي حاجته". وفي لفظ: "ثم رضِّني به...".

حكمة مشروعيتها:

الاستخارة غرضها التسليم لأمر الله، والخروج من الحول والطول، والالتجاء إليه سبحانه، للجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج في هذا إلى قرع باب الملك، ولا شيء أنجع لذلك من الصلاة والدعاء، لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلًا وحالًا.

قال ابن القيم: «عوَّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء عمَّا كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام، الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين، يطلبون بها علم ما قُسم لهم في الغيب، ولهذا سُمِّي ذلك استقسامًا، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعوَّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار، وعبودية وتوكل، وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه، من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه».

ما تكون فيه الاستخارة:

تشرع الاستخارة في الأمور المباحة، كالسفر والزواج والتجارة ونحوها، أما الواجبات والمندوبات فلا يستخير لها، بل يفعلها فورًا، فلا يستخير هل يصلي أو لا يصلي. ولا تدخل الاستخارة في ترك المحرمات والمكروهات، فلا يستخير هل يسرق أو لا، إذ الواجب عليه: فعل الواجبات، وترك المحرمات، والمندوب له: فعل المندوبات، واجتناب المكروهات.

وقد يستخير العبد في أمر يتعلق بالعبادة، لا لذات العبادة، وإنما لوسيلتها وما يحاط بها؛ وذلك مثل سفره للحج، لاحتمال عدوٍّ أو فتنة، أو تكون مشقة الحج مُضرَّة به لمرض أو كبر أو نحو ذلك. فما كان مثل ذلك فله أن يستخير فيه؛ لأنه لم يستخرْ لذات الطاعة، وإنما لما قد يلحقه من جرَّائها.

وينبغي للمؤمن أن يعوِّد نفسه على الاستخارة، ولا يحتقر شيئًا يستخير الله فيه؛ إذ إن كبائر الأمور تبنى على صغيرها. ولذلك اشتهر بينهم قولهم: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار. فالمؤمن يستخير الخالق، ويستشير المخلوق.

قال الإمام الشوكاني في شرحه لحديث جابر في الاستخارة: «وفي قوله: "في الأمور كلها" دليل على العموم، وأنَّ المرء لا يحتقر أمرًا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمر يُسْتَخَفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم، أو في تركه».

كيفية الاستخارة:

اتفقت المذاهب الأربعة على أن الاستخارة تكون بركعتين من غير الفريضة، ثمّ يدعو الدعاء المأثور بعدها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليركع ركعتين من غير الفريضة".

فإذا تعذرت الاستخارة بالصلاة والدعاء معًا، جاز أن يدعو من غير صلاة، وبهذا قال الحنفية والمالكية والشافعية.

وأجاز المالكية والشافعية أن تكون بالدعاء عقب أي صلاة كانت مع نيتها، وهو أولى، أو بغير نيتها كما في تحية المسجد.

موطن دعاء الاستخارة من الصلاة:

ذهبَ جمهور الفقهاء: إلى أنَّ الدعاء يكون بعد التسليم، وهو الموافق لما جاء في نص الحديث الشريف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول...".

وأجاز الحافظ ابن حجر جوازه في السجود، أو بعد التشهد، فقال: «هو ظاهر- أي حديث الاستخارة- في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، ويحتمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، فإن موطن الدعاء في الصلاة السجود أو التشهد».

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن دعاء الاستخارة: هل يدعو به في الصلاة أم بعد السلام؟

فأجاب: يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة وغيرها، قبل السلام وبعده، والدعاء قبل السلام أفضل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكثرُ دعائه قبل السلام، والمصلِّي قبل السلام لم ينصرف، فهذا أحسن.

وقت الاستخارة:

أجاز القائلون بحصول الاستخارة بالدعاء فقط وقوع ذلك في أي وقت من الأوقات؛ لأنَّ الدعاء غير منهي عنه في جميع الأوقات.

أمَّا إذا كانت الاستخارة بالصلاة والدعاء، فالمذاهب الأربعة تمنعها في أوقات الكراهة، وقد نص المالكية والشافعية صراحة على المنع، غير أن الشافعية أباحوها في الحرم المكي في أوقات الكراهة، قياسًا على ركعتي الطواف. ولما رُوِي عن جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى في أيِّ ساعةٍ من ليل أو نهار".

وأما الحنفية والحنابلة، فلعموم المنع عندهم، فهم يمنعون صلاة النفل في أوقات الكراهة، لعموم أحاديث النهي، ومنها:

ما رواه ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) ص342-373


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022