(في أهميّة قصّة يوسف عليه السلام و بعض خصائصها)
من كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام للدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الرابعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م
ذكر الدكتور ناصر العمر أهمّ الأسباب الّتي دعته إلى اختيار قصّة يوسف عليه السلام تدريساً وكتابة، فذكر من تلك الأسباب:
1. أهميّة ربط الحياة بالقرآن والسنّة، فالأمّة الآن تعيش ظروفاً صعبة لم تمرّ بها في تاريخها وأعلم يقيناً أنّ المخرج يكمن في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9].
ويقول النبيّ ﷺ: " تركت فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وسنّتي".(1) وإذ كان الأمر كذلك فلا بدّ من الوقوف مع آياته. فآثرت البدء بسورة عشت معها سنينَ عدداً، وأحسب أنّه قد مرت بي بعض تجاربها، وربّما كان لذلك أثر جعل دلالات السّورة لديّ أكثر وضوحاً، وأقرب فهماً.(2)
2. كانت المدّة بين عام الحزن وبيعة العقبة الأولى من أشدّ السنوات الّتي مرت على النبيّ ﷺ وصحابته الكرام، فجاءت سورة يوسف مسليّة ومبيّنة السبيل الّذي يمكّنهم من الخروج من ذلك الواقع.
وأمّتنا اليوم تعيش فترة حرجة في تاريخها، فبعد أن وقعت الأمّة تحت وطأة الاحتلال عقوداً درست فيها معالم من علم الشريعة كانت لا تخفي على كثير من النّاس، ثمّ لمّا بدأت آثار الاحتلال تنحسر بقيام الصحوة الإسلاميّة المباركة في المشارق والمغارب، لم يجد الأعداء بدّاً من إعادة الكرّة للحيلولة بين الأمّة وبين نهضتها، وفي هذا الوقت العصيب يجد المسلم في كتاب ربنا وفي أحسن قصصه عزاءً وتسليةً، كما يجد الإرشاد إلى سبيل الرشاد.
3. الارتباط الوثيق بين الأمم السّابقة واللاحقة، فرغم اختلاف العصور يبقى التوافق في الطبع البشري، وفي الظّروف البشريّة؛ ولذلك قصّ الله تعالى على نبيّه هذه القصّة رغم وقوعها قبل قرون من مبعثه ليستفيد ممّا فيها من دروس وعبر، وتستفيد منها أمّته إلى قيام الساعة. والقرآن الكريم بيّن أنّ قراءة سير الأولين للاعتبار منها، ترفع كفاءة الأمّة، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]. ويقول الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [غافر: 82]. فالله جلّ وعلا يدعو للسير في الأرض والنّظر في واقع تلك الأمم، سواء سيراً حقيقيّاً، أو سيراً فكريّا؛ بمعنى قراءة سِير السابقين وتتبّع تاريخهم.
4. ذكر بعض أهل العلم في تفسير قوله الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: 7]، أنّ النبيّ ﷺ سئل عن قصّة يوسف فنزلت هذه السّورة، وهذا لا يتعارض مع ما سبق بيانه، فالله يسّر سؤال السائل وقدّره لحكمة عظيمة، منها ما يتعلق بواقع المسلمين إذ ذاك، وإذا تأملت قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾، بدا لك أنّ اللفظ أعمّ وأشمل من مجرد الإجابة عن سؤال خاص، بل اللفظ مشعر بأنّ فيهما جواباً لكلّ سؤال، ولعلّ هذه لطيفة من لطائف الاستهلال لقول الله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [يوسف: 1]؛ فوُصفَ الكتاب بالإبانة لكلّ ما يوجب الهدى، وهذا ما رأيته في هذه السّورة العظيمة، فقد اشتملت على أحكام شرعيّة تتعلق بفروع شتّى، كما أنّها تطرقت لأصول عظيمة تتعلق بالعقائد والأحكام والسياسات والاقتصاد والتربية والاجتماع. حقّاً إنّ فيها لآيات للسائلين!
5. يقول الله تعالى في آخر السّورة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]؛ والعبرة: الاعتبار والاتعاظ والتذكر، وإذا تأملت الآية السابعة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: 7]، والآية الأخيرة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]، وما بينهما، وما قبلهما من آيات يصدّق بعضها بعضاً، وجدتّ في ما بينهما الإكسير الّذي يمكن أن يكون له عظيم الأثر في حياة الأمة، إذا أخذت به كما أخذ به محمّد ﷺ، وإذا تأثّرت به كما تأثّر به السلف.(3)
ويقول الدكتور علي محي الدّين القره داغي في كتابه "يوسف عليه السلام قدوة المسلمين في غير ديارهم"، وهو يذكر أهدافه من كتابه: الاستفادة من دروس التّاريخ والعبرة من قصص السابقين في الفروع، والاتّعاظ بما جرى للآخرين، قال تعالى في ذمّ هؤلاء الّذين لا يستفيدون من الماضي ومن الآخرين: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أنّهم يُفْتَنُونَ فِي كلّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثمّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة: 126]؛ فقد أشارت الآية إلى ضرورة الاستفادة من الوحي بالرجوع إلى الله تعالى، والاستفادة من العقل بالتّذكر والتّدبّر والتبصر، والتحليل والنظر في المآلات فالعاقل من اتّعظ بغيره، والكيّس من عرف نفسه وعمل لمستقبله في الدنيا والآخرة. (4)
إذا تأملت خبر يوسف عليه السلام مع صاحبيّ السجن وجدت ظرفاً من أصول منهج الدّعوة، فعندما سأل السجينان يوسف عن الرؤيا بدأ بالتوحيد فدعا إليه رغم ظروف سجنه، ولم يعدّ السجن عائقاً عن الدعوة، بل جاء في السّورة تقرير منهج الدّعوة مجملاً: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، والدّعاة في مشارق الأرض ومغاربها بحاجة إلى التّذكير بهذا المنهج.(5)
وذكر الدكتور على القره داغي في كتابه عن يوسف عليه السلام أنّ من أهدافه في كتابه: بيان عظمة القرآن في منهجه المنفرد بتجديد معانيه وعبره وسننه، والاستفادة منه في أكثر من مقام. وقال: ... ولكن الله تعالى هداني في كتابي: "نحن والآخر" إلى أنّ قصّة يوسف عليه السلام أنموذج كامل وقدوة شاملة وأسوة عظيمة للأقليّة الإسلامية حيث تتشابه ظروفها مع ظروف سيدنا يوسف عليه السلام، وهي قصّة نجاح لفرد مسلم داخل بشَعب غير مسلم - مصر في ذلك الوقت - فنحن نريد مثل هذا النجاح للأقليّة المسلمة، من خلال القيم الّتي تحلى بها يوسف، ومن خلال الأسباب والوسائل الّتي اعتمدها للوصول إلى النّجاح في الدنيا والآخرة.(6)
إنّ يوسف عليه السلام كان داعياً إلى توحيد الله، وقد أفرده بالعبادة، بأقواله، وأفعاله، وسمته، وهدوئه، وصمته، وحججه، وعقله، وقلبه، ولسانه، وجوارحه.
- ومن الأسباب أيضاً ما وجدتّه من التلازم الشديد بين الشدّة والفرج – ونحن بأمسّ الحاجة إلى بثّ الأمل في الأمة – من أوّل السّورة إلى آخرها! ومن أمثلة ذلك: عندما أُلقي يوسف عليه السلام في البئر أوحي الله إليه بأنّه سينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وكذلك لمّا أخبر إخوته أنّه يوسف خافوا وبادروا بالاعتذار: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 91]، فقال لهم مباشرة: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 92]، فزال ما بهم من انكسار. والأمثلة في السّورة متعدّدة. (7)
مراجع الحلقة الرابعة عشر:
رواه الحاكم في مستدركه، مرجع سابق، (1/172)، رقم: 319.
2 آيات للسائلين، مرجع سابق، ص 8.
3 المصدر السابق نفسه، ص 11.
4 يوسف عليه السلام، د. علي القره داغي، دار النداء، إستنبول – تركيا، الطبعة الأولى، 2018م، ص 15.
5 آيات للسائلين، مرجع سابق، ص 10.
6 يوسف عليه السلام، علي القره داغي، مرجع سابق، ص 14.
7 آيات للسائلين، مرجع سابق ص 12.
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668