الثلاثاء

1446-08-12

|

2025-2-11

سورة يوسف من خلال خصائص القصّة القرآنية عامة

الحلقة: السابعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م

 

أ. ربّانية المصدر:

قصّة يوسف عليه السلام في سورة يوسف، والقصّة القرآنية عموماً من خصائصها أنّها ربانيّة المصدر، موحى بها من عند الله تبارك وتعالى، وهي لا يعتريها ما يعتري القصص البشرية من نقصٍ وتحريف، حفظها الله تعالى بحفظه لكتابه، حيث قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، فهي جزء من كتاب الله الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه المصدريّة في بداية بعض القصص وفي خاتمتها، ومن ذلك قوله تعالى في بداية سورة يوسف: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)﴾ [يوسف: 1 - 3]. وقال الله تعالى عقب قصّة يوسف عليه السلام: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف: 102].

ب. قصص حقٌّ لا مريةَ فيه:

إن القصّة القرآنيّة ربانيّة المصدر فإنّها قصص حقّ، وهذا يعني أنّ كلّ ما ورد من وقائع، وشخصيّات وأزمنة وأمكنة له في عالم الواقع وجود، باعتبارها قصّة تاريخيّة، فالصدق فيها صدق واقعيّ، فليس فيها تلفيق أو اختراع أو بناء أحداث على أساس من الخيال، وإذا كان فيها من أخبار، أو شخصيّات لم يرد عنها في التّاريخ ما ورد في القرآن الكريم، فإنّ القرآن حجّة على التّاريخ؛ لأنّه تنزيل من حكيم خبير، ولأنه النصّ الدّيني الوحيد الّذي يسلم في تاريخ البشريّة من التحريف والّتزوير. (1)

وإن القصّة القرآنية خالية من الكذب والأساطير والخيال، فالقصّة القرآنية سلمت من الخيال فلم تتعرض له في أيّ حلقة من حلقاتها، ولا جزئيّة من جزئيّاتها، إلّا أنّها تأخذ بمجامع القلوب، وتأسرها وتُحدث من التشويق ما لا تحدثه أروع الملاحم وأكثرها إغراقاً في الخيال.(2)

ج. قصص واقعي:

إن القصّة القرآنيّة لا تحلّق بالإنسان في عالم المثاليّات الّتي لا وجود لها في عالم الواقع، بل تخاطبه على أنّه بشر له طاقة محدّدة لا يمكن أن يتجاوزها.(3) فالقصّة القرآنيّة واقعية لا تخرج عن حياة البشر، ولكن هذه الواقعيّة رغم عدم إنكارها لحالات الهبوط، وواقعيّـها، إلّا أنّها لا تمجّدها وتسلّط الأضواء عليها، كم تفعل بعض القصص البشريّة.(4)

إنّ القصص القرآني، إنّما هو من واقع الحياة فهو يصوّرها تصويراً دقيقاً بأخذ مجامع القلوب دون أن يكون للخيال أو الوهم، مداخل فيها أبداً.(5) ومن واقعيّتها أنّها ترسم صورة الأنبياء والمرسلين، كما هم عليه من تبليغٍ لدعوة الله، وبما اتّصفوا به من كمال خلقي، ومع ذلك لا تغفل حالة الضعف البشري الّتي قد يصابون بها.(6) وصحيح أنّ القرآن يختار من نفس (بطل القصّة) اللفظة المترفّعة المستعلية النّظيفة الرائقة، الّتي تصلح للقدوة وتغري بالارتفاع، ويختار من نفوس المنحرفين اللفظة الّتي تصوّر سوء قلوبهم، وسوء انحرافهم، لتصلح للتنفير من أفعالهم، والاعتبار - بمصيرهم – وهذا منسجم مع أهدافه، فضلاً على أنّه كلّه حقائق، إلّا أنّه في لقطات أخرى، وخاصّة في القصص الطويلة الّتي تتسع للعرض والتحليل، يعرض النفس البشريّة كاملة بكلّ ما فيها من لحظات (الضعف البشري)، كلّ ما هنالك أنّه لا يصنع كما تصنع الفنون (الواقعية) الحديثة، المتأثّرة بالتفسير الحيواني للإنسان، ولا يجعل من لحظة الضعف بطولة تستحق الإعجاب، والتصفيق والتّهليل، بل إنه يعرضها عرضاً (واقعيّاً) خالصاً، ولكنه لا يقف عندها طويلاً، وإنّما يسرع ليسلّط الضوء على لحظة الإفاقة؛ لحظة التغلّب على الضعف البشريّ؛ لأنّها هي الجديرة فعلاً بتسليط الأنوار عليها.(7)

ومع استيفاء القصّة القرآنية لكلّ ملامح (الواقعيّة) السّليمة المتكاملة، وخصائصها في كلّ شخصية، وفي كلّ موقف، وفي كلّ خالجة، فإنّها تمثّل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء، الفنّي للقصّة، ذلك الأداء الصادق، الرائع، بصدقه العميق، وواقعيّته السليمة؛ المنهج الّذي لا يهمل خلجة بشريّة واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعاً من الوحل يسمّيه: (الواقعية)، كالمستنقع الّذي أنشأته الواقعيّة الغربيّة الجاهليّة.

وقد ألــمّـــت القصّة بألوان الضعف البشريّ بما فيها، لحظة الضعف الجنسي، ودون أن تُزوّر - أيُّ تزوير – في تصوير النفس البشريّة بواقعيّتها الكاملة في هذه المواقف، ودون أن تُغفل أيّة لمحة حقيقيّة من لمحات النفس، أو الموقف، فإنّها لم تسفَّ قط لتنشئ ذلك المستنقع المقزز للفطرة السّليمة، ذلك الّذي يسمّونه في جاهلية القرن العشرين: (الواقعية)، أو يسمونه أخيراً: (الطبيعيّة)، وظلّت القصّة صورة نظيفة للأداء الواقعيّ، الكامل مع تنوّع الشخصيّات وتنوّع المواقف.(😎

فهي قصّة شاملة لجميع نواحي الحياة، وجميع جوانب الإنسان المختلفة تصوّر الواقعة أدقّ تصوير بعيداً عن الإسفاف والمبالغة.(9)

وثمّة فارق هائل يفرّق القصّة القرآنيّة عن غيرها من القصص الإنسانيّ، ذلك أنّ الإسلام كدين هو منهج كامل متكامل من أجل الحياة، وهو كمنهج ينعكس أثره وتأثيره على واقع الحياة الإسلاميّة، فيلتزم به المسلمون التزاماً قويّاً في الفكر والسلوك، والقيم الحياتيّة الّتي تشكل حركة المسلم في إطار الجماعة، وإذا ما تمسّك المسلمون بقيم الدّين الإسلاميّ تمسكّاً قويّاً؛ فإنّ ذلك سيصبح إشارة فاعلة على التأثير الإسلاميّ في الفكر والنفس والحياة، ويصبح العمل الإبداعي كالقصّة له ملامح خاصّة تميّزه عن غيره من أنواع الإبداع الأخرى.(10)

 

مراجع الحلقة السابعة عشر:

بعض المبادئ التربويّة المستنبطة من قصّة يوسف عليه السلام، المصدر السابق نفسه، ص 25.

2 بعض المبادئ التربويّة المستنبطة من قصّة يوسف عليه السلام، المصدر نفسه، ص 25.

3 المصدر السابق نفسه، ص 27.

4 المصدر السابق نفسه، ص 28.

5 الوحدة الموضوعية، محمد محمود حجازي، مطبعة المدني، القاهرة – مصر، الطبعة الأولى، 1390ه، ص 292.

6 منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، دار الشروق، الطبعة 14، ص 196.

7 المصدر السابق نفسه، ص 196.

8 في ظلال القرآن، مرجع سابق، (4/1952).

9 بعض المبادئ التربويّة، مرجع سابق، ص 31.

10 المصدر السابق نفسه، ص 31.

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022