تأملات في الآية الكريمة ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾
الحلقة: 21
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م
1. ﴿الر﴾:
تلفظ: ألِفْ لامْ راْ، وهي من الحروف النّورانيّة، وتسمّى أيضاً بالحروف المقطّعة، لتفريقها وتمييزها عن الحروف المتّصلة في الكلام المعتاد.(1)
ولم يثبت عن الرسول ﷺ أنّه تكلم في شيء من معاني هذه الحروف المقطّعة، بل غاية ما ثبت عنه؛ هو ذكر عدد أسماء هذه الحروف،(2) فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله ﷺ: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به عشر حسنات. والحسنة بعشر أمثالها. ولا أقول: (الم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".(3)
وملخص اختلاف العلماء في تأويلهم الأحرف المقطّعة كالتالي:
الأول: اسم من أسماء القرآن، كما جاء عن قتادة في قوله: (الم): اسم من أسماء القرآن.(4)
الثاني: هي فواتح يفتتح الله تعالى بها القرآن. عن مجاهد قال: (الم)، (حم)، (المص)، (ص): فواتح افتتح الله بها.(5)
الثالث: قيل: هي أسماء السور. سئل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قوله تعالى : ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 1، 2]، و ﴿الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ [السجدة: 1، 2] و ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 1]، فقال: قال أبي: إنّما هي أسماء سور.
الرابع: قيل: هي اسم الله الأعظم. عن الشعبيّ قال: هي فواتح السور من أسماء الله تعالى.(6)
الخامس: قيل: هي حروف مقطَّعة من أسماء وأفعال، كلّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
السادس: لكلّ كتاب سرّ، وسرّ القرآن فواتحه.
السابع: قال آخرون: ابتدأ الله أوائل السور بذلك ليفتح لاستماعه أسماع المشركين، إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتّى إذا استمعوا له، تلي عليهم المؤلف منه.
الثامن: هو قسمٌ أقسم الله به وهو من أسمائه؛ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: هو قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسماء الله عزّ وجلّ.(7)
التاسع: ابتدأ سبحانه وتعالى هذه السّور بحروف صوتيّة منفردة، ومهما حاول العلماء أن يفسّروها لن يصلوا إلى معانيها وهي ظنون يردّدونها، وليست معاني يستقيم إدراكها، إنّها متشابه اختصّ الله بعلمه، وقد آمنّا به كلّ من عند ربّنا، ولا ينبغي تأويله، وما يعلم تأويله إلّا الله عزّ وجلّ.(
العاشر: ذُكرت لتنبيه العرب إلى أنّ القرآن الكريم إنّما أُلّفت كلماته من جنس ما تؤلّف منه كلماتهم، أي: من حروف الهجاء العربيّة المعروفة لديهم، فلم ينزل بكلمات خارقة للعادة حروفها، ولا مباينة للمألوف في مواد تركيبها، ومع ذلك فقد كان عجزهم عنه أبلغ في الحجّة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم حيث عجزوا عن الإتيان ولو بأقصر سورة من مثله، ومع أنّهم أصحاب البلاغة والفصاحة والبيان.(9)
2. ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ المُبيِنِ﴾:
- ﴿تلك﴾: اسم إشارة للبعيد، واستعمل هنا ليشعر بارتفاع قدر آيات الكتاب فوق كلّ كلام ارتفاعاً هائلاً وعلواً سامياً لا ينال ولا يُدرك، ولا حتّى يقرُب منه كلام آخر. (10)
ومع أنّ الآيات بين يديك ممسِك بصحائفها، إلّا أنّك تقول: تلك (إشارة للبعيد)، استشعاراً لعلوّ مكانتها، وشموخ معانيها، ورفعة شأنها.(11)
- ﴿آيات﴾: ترد كلمة: ﴿آيات﴾، في القرآن لمعانٍ منها:
الأول: بمعنى الجمل المنزّلة على النبيّ ﷺ المقروءة باللسان، ويُقال لها: في القرآن فواصل، وسجعات، وفِقر، ومنه قولهم مثلاً: سورة يوسف مائة وإحدى عشرة آية، والفاتحة: سبع آيات، وهكذا.
الثاني: بمعنى العلامات، فقال النابغة الذبياني:
توهمتُ آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ومنها العلامة الّتي أقامها في الأنفس والآفاق للدّلالة على وحدانيّته وكماله وتنزيهه.
الثالث: بمعنى المعجزات الخارقة للعادة، الّتي أجراها الله على أيدي رسله، ولعلّه قيل لها آية لأنّها علامة.
الرابع: بمعنى العبر والذكر والحكم والعظات الّتي توخذ بما ينزّله الله على نبيّه ﷺ في هذا المعنى قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: 7]؛ فالآية هنا بمعنى العِبرة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].
الخامس: بمعنى العجيبة؛ لأنّها عجب من العجائب، وقال الدّكتور محمّد عاطف السّقا: آيات: جمع آية، والآية هي الدّليل الواضح والبرهان الساطع، والحجّة البيّنة على أمر أو شيء ما.(12)
وآيات القرآن الكريم هي آيات الله في كتابه الدّالة عليه وعلى مراده في خلقه، وقد جاءت على ثلاثة أنواع:
- آيات الله في كتابه.
- آيات الله لأنبيائه.
- آيات الله في خلقه.
ومن مقاصد آيات الله تعالى في كتابه العزيز:
- الدّلالة على الله سبحانه، والتّعريف بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
- الدّلالة على صِدق رُسله.
- الدّلالة على مُراد الله من النّاس؛ إيمان وتكليف (عبادة)، ويتبعها حساب وجزاء.
- ﴿الكتاب﴾: كلمة الكتاب عندما تطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم و﴿الكتاب﴾ إشارة إلى أنّ القرآن ما دام مكتوباً فهو موثّق لا ريب فيه، وفيها أيضاً دلالة إعجاز أخرى، وهي أنّه في العهد المكّي والمدني كان مكتوباً على مواد بسيطة كما أثبتت الروايات، ولكنّه لم يكن مجموعاً كاملاً إلّا في عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه بين دفتين جمع ما تفرق، وفي عهد عثمان رضي الله عنه جمع ما اختلف فيه من أحرف. فدلّ قوله الله تعالى: ﴿ الكتاب﴾ على أنّه سيجمع وسيتكفّل الله بحفظه، وصدق الله القائل: [إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ] [الحجر: 9].
- ﴿المبين﴾: أيّ: الّذي يبيّن كلّ شيء تحتاجه حركة الإنسان في الأرض، فإن بان لك شيء، وظننت أنّ القرآن لم يتعرّض له، فلا بد أنّ تبحث عن مادّة، أو آية تلفتك إلى ما يبيّن لك ما غاب عنك. ويروى عن الإمام محمّد عبده أنّه قابل أحد المستشرقين في باريس، فوجّه المستشرق سؤالاً إلى الإمام فقال: ما دامت هناك آية في القرآن تقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، فدعني أسألك كم رغيفاً ينتجه أردبُّ القمح فقال الإمام للمستشرق: انتظر، واستدعى الإمام خبّازاً وسأله: كم رغيفاً يمكن أن نصنعه من أردبّ القمح فأجاب الخبّاز على السؤال. فقال المستشرق: لقد طلبت منك إجابة من القرآن، لا من الخبّاز، فرد الإمام: إذا كان القرآن قد قال: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، فالقرآن قال أيضاً: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
مراجع الحلقة الواحدة والعشرون:
يوسف أيها الصدّيق، د. محمّد عاطف السقّا، مرجع سابق، ص 15.
2 أثر السياق القرآني في الترجيح بين المعاني، منال فهد، المكتبة المركزية، رسالة جامعية، 2019م، ص 77.
3 سنن الترمذي، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1395ه، رقم الحديث: 2910.
4 المصدر السابق نفسه، ص 78.
5 تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، محمد بن جرير الطبري، (1/205-210)، المحرر الوجيز: (1/82).
6 المصدر السابق نفسه، (1/205- 210).
7تفسير الطبري، مرجع سابق، (1/205- 210.
8 زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1432ه، (7/3974).
9 فتح القدير، الشوكاني، (1/34)، أثر السّياق القرآني في الترجيح، مرجع سابق، ص 80.
0 تأملات إيمانية في سورة يوسف، ياسر برهامي، ص 12.
1 يوسفيات، علي جابر الفيفي، دار الميمان، الطبعة الأولى، 2019م، ص 21.
2 يوسف أيها الصّديق، مرجع سباق، ص 22.
3 يوسف أيها الصّديق، المصدر السابق، ص 23.
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي