في مسألة وصف القرآن الكريم بأنّه عربيّ اللغة
الحلقة: 23
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1444ه/ يوليو 2023م
- ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]
- ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ [طه: 113].
- ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾ [الشعراء: 192 - 195]. وغير ذلك من الآيات، وكلّ ذلك يدلّ دلالة قاطعة على أنّ القرآن الكريم عربيّ اللغة بجميع كلماته.
- ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44].
- وقال أيضاً: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر: 28].
فالقرآن كلّه عربي، وما من كلمة فيه إلّا كان العرب يتكلمون بها قبل نزوله. ويدلّ نزول القرآن الكريم باللغة العربيّة على فضلها وشرفها على سائر اللغات، لأنّه سبحانه وتعالى اختارها لغة لأفضل الكتب وأشرفها، وكما يدلّ على أن اللغة العربيّة تمتاز بقدرتها الفائقة على تأدية المعنى مهما كان.(1)
قال ابن كثير في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]؛ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني الّتي تقوم بالنّفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف بقاع الأرض.(2) وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمل من كلّ الوجوه.
إنّ القرآن الكريم كتاب مبين واضح جليّ لأنّه نزل بلغة العرب، أفصح اللغات وأبينها، وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني، وهذا يفنّد مزاعم القائلين بعجز اللغة العربيّة عن مسايرة ركب التطوّر العلمي في العصر الحاضر، وهي أكذوبة كبيرة وفريّة عظيمة على اللغة العربيّة، روّجها أعداء الإسلام من المستشرقين، وأخذ بها - مع الأسف - كثير من المثقّفين العرب، فعزلوا لغتهم العربيّة عن مجالات الدّراسة والتدريس في معظم الجامعات والكليّات العلميّة وغفلوا عن حقيقة هامّة، هي أنّ اللغة العربيّة كانت لغة الحضارة الإسلاميّة، الّتي ضمّت تحت أجنحتها مختلف الثقافات والعلوم الّتي كانت سائدة في العالم، الحضارة الّتي خلّفت أكبر تراث علميّ وحضاريّ لأمّة من الأمم. وغفلوا أيضاً عن كون اللغة العربيّة هي لغة القرآن الكريم الّذي لا تنتهي معانيه، والّذي أخبر عن كثير من الحقائق العلميّة الّتي ما عُرفت إلّا في العصر الحاضر. ولقد ذهب بعض العلماء في مؤتمر الإعجاز العلميّ للقرآن الكريم الّذي عقد في القاهرة سنة 1986م إلى المطالبة بجعل الكلمات القرآنيّة العلميّة لأطوار خلق الجنين هي المصطلحات العلميّة، ونادى هؤلاء بتعميمها على سائر الأوساط العلميّة بسبب ما وجدوا من دقّتها العلميّة المتناهية في وصف أطوار الجنين وأحواله. (3)
نالت العربيّة شرفها، وارتفاع مكانتها بين اللغات من ارتباطها بالموصوف، وهو القرآن الكريم، وهو فضل الله سبحانه وتعالى على العرب ولغتهم العربيّة بأنّ القرآن الكريم نزل بالعربية ليكون خطاب المولى سبحانه إلى كافة الخلق، فارتفع شأنها بهذا التكريم الرباني، ولولا ذلك لبادت وانثرت منذ زمن بعيد، ولتحولت إلى لهجات متباينة مختلفة لا يكاد الناطقون بأحدها يفهمون الأخرى.(4)
أخرج القرآن الكريم اللغة العربيّة من عالم الجزيرة إلى عالم الرسالة الرحب عندما خاطب بها العشيرة وخاطب بها أهل مكة ثمّ خاطب بها النّاس أجمعين، فاستطاع أن يقرب بين يديها معظم أنحاء العراق وبلاد الشام وشمال أفريقيا، واستطاع المسلمون الفاتحون أن ينشروا العربيّة في معظم البلاد المفتوحة، ذلك أن التعريب بالقرآن وتحت رايته جزء لا يتجزأ من رسالة الإسلام. (5)
وأصبح تعلم العربيّة ضرورة دينية، فالصلاة لا تكون إلّا باللغة العربيّة وكذلك الآذان فلا بد من قراءة القرآن ورفع الأذان وأداء الصلاة بالعربيّة.(6)
إنّ كون القرآن جاء بلسان عربي مُبين يقتضي ألّا يتعدّى لفهم القرآن الكريم وتفسيره إلّا من كان عالماً باللغة العربيّة؛ فقهها وصرفها وبيانها ومعانيها وبديعها، وأساليبها ودلالاتها، أمّا غير العرب، فإما أن يتعلموا اللغة العربيّة كما فعلوا فسبقوا بضعهم أهلها، وأبدعوا فيها، أو نترجم لهم معاني القرآن الكريم، فتكون المعجزة في معانيه وتشريعاته وما يتضمنه من الإعجاز العلمي والطبي ونحوه.(7)
إنّ القرآن الكريم منهج حياة، ومعجزة ربانية لرسول الله ﷺ، ونزل باللغة العربيّة؛ لأن الرسول ﷺ سيجهر في الدعوة في أمة عربية، وكان لا بد من وجود معجزة تدلّ على صدق بلاغه عن الله، وأن تكون ممّا نبغ فيه العرب؛ لأن المعجزة مشروطة بالتحدي ولا يمكن أن يتحداهم في أمر لا ريادة لهم فيه، ولا لهم به صلة، حتّى لا يقولن أحد: نحن لم نتعلّم هذا ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه.
وكان العرب أهل بيانٍ وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر، وكانوا يجتمعون في الأسواق، وتتفاخر كلّ قبيلة بشعرائها وخطبائها المفوّهين. وكانت المباريات الأدائيّة تقام، وكانت التحدّيات تجري في هذا المجال ويُنصب لها الحكّام. أي: أنّ الدربة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة محكوم عليها من النّاس في الأسواق، فهم أئمة بيان وبلاغة وفصاحة. لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أوّل قوم نزل فيهم القرآن، وحين يؤمن هؤلاء لن يكون التحدي بفصاحة الألفاظ ونسق الكلام، بل بالمبادئ الّتي تطغى على مبادئ الفرس والروم.(8
إنّ الله سبحانه وتعالى أرسل محمّداً ﷺ بالقرآن الّذي تميّز عن سائر كتب الرسل الّذين سبقوه، بأنه كتاب ومعجزة في آن واحد، بينما كانت معجزات الرّسل السّابقين عليهم الصلاة والسلام منفصلة عن كتب الأحكام الّتي نزلت إليهم، ويظل القرآن معجزة تحمل منهجاً إلى أن تقوم الساعة.(9)
مراجع الحلقة الثالثة والعشرون:
التفسير الموضوعي لسور القرآن، مصطفى مسلم، مرجع سابق، (4/123).
2 تفسير ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420ه/1999م، (4/366).
3 التفسير الموضوعي، مرجع سابق، (4/124).
4 العدد في القرآن الكريم، عبد الرحمن سعود، مرجع سابق، ص 31.
5 المصدر السابق نفسه، ص 33.
6 المصدر السابق نفسه، ص 33.
7 يوسف عليه السلام قدوة للمسلمين في غير ديارهم، مرجع سابق، ص 35.
8 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6825).
9 المصدر السابق نفسه، (11/6826).
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي