الأربعاء

1446-08-13

|

2025-2-12

تأملات في الآية الكريمة ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾

الحلقة: الخامسة و العشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

28 ذو الحجة 1444ه/ 16 يوليو 2023م

 

يتكلم سبحانه وتعالى بأسلوب يُعبّر عن أفعاله، ولا يقدِر عليه غيره بالدقة الّتي شاءها هو سبحانه وتعالى. (1)

والتعبير بــ ﴿نحن﴾ للدلالة على أنّ القصّة عظيمة، وهنا تنبيه مهم وهو أنّ إسناد فعل القصّة إلى الله تعالى لا يعطي الحقّ في إطلاق الصفة المشتقة منه عليه سبحانه وتعالى، ولذلك لا يجوز إطلاق (القاصّ) على الله سبحانه وتعالى، فالقاعدة الذهبية في المسألة هي: أنّ ما أثبته الله سبحانه وتعالى لذاته بصيغة الصفة، مثل: العالم، والقادر، ونحوهما يجوز إطلاقها وإطلاق فعلها على ذاته العلية. (2)

يقول العلامة الشعراوي: وفي كلّ ما يتعلق به ذاتاً وصفات وأفعالاً إنّما نلتزم الأدب؛ لأننا لا نعرف شيئا عن ذات الله إلّا ما أخبرنا الله عن نفسه؛ لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنّه: (قصّاص)، بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسما لله؛ لأنّه لم يصف نفسه في أسمائه الحسنى بذلك، والواجب ما أطلقه اسما نأخذه اسماً وما أطلقه فعلاً نأخذه فعلاً.(3) ونعلم أنّ كلمة (قصَّ) تعني الاتبّاع، وقال بعض العلماء: إنّ القصّة تُسمى كذلك لأن كلّ كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قصّ الأثر، وهو تتبع أثر السائر على الأرض؛ حتّى يعرف الإنسان مصير من يتّبعه، ولا ينحرف بعيداً عن الاتجاه الّذي سار فيه من يبحث عنه. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 11] ؛ قصيه: أي: تتبّعي أثره. إذن فالقصّ ليس هو الكلمة الّتي تتبع كلمة، إنّما القصّ هو تتبع ما حدث بالفعل، فتكون كلمة مصوّرة لواقع، لا لبس فيه أو خيال؛ ولا تزيّد. وليس كما يحدث في القصص الفني الحديث، حيث يضيف القصاص لقطات خيالية من أجل الحبكة الفنية والإشارة وجذب الانتباه. وأمّا قصص القرآن فموضعه مختلف تماماً، فكل قصص القرآن إنّما يتتبّع ما حدث فعلاً؛ لنأخذ منها العبرة والفوائد والدروس؛ لأنّ القصّة نوع من التاريخ. (4)

﴿نحن نقص عليك﴾: العظيم يقصّ، والرسول الكريم يستمع نصاً يفيض نوراً؛ يا الله ما أجمل الموقف، أن يقصّ الخالف على المخلوق! إنها القصص المؤثرة في كلّ النفوس، وفي نفوس الأنبياء والمرسلين والمصلحين والصالحين والمؤمنين والمسلمين، والإنسان جُبل على حبّ القصص، فهي أسلوب تربوي يجذب المتلقي.(5)

﴿نحص نقص عليك أحسن القصص﴾: والآية الّتي قبلها: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، يدل على مرونة اللغة، وقدرتها على تأدية مختلف المعاني بأفصح المباني، وأوضحها، فأحسن القصص أنزلها سبحانه وتعالى باللغة العربيّة، وهي في الأصل قصّة غير عربية في أشخاصها وأحداثها، فالقصّة عبرية، مع ذلك قصها الله علينا في القرآن العربي المبين بأرفع بيان، وأفصح كلام، في سورة واحدة بأداء واقعيّ كامل، رغم تنوّع الشخصيات والمواقف، ورغم كثرة العواطف والمشاعر ودقتها واختلافها، وكلّ ذلك يدلّ على فضل اللغة العربيّة وشرفها، وقدرتها على تأدية مختلف المعاني، سواء كانت تاريخيّة أو علميّة أو غير ذلك.(6)

﴿أحسن القصص﴾؛ لأنّه قُص بأبدع أسلوب، ولأنه يبيّن عجائب النّفوس، وفيه أحسن الآداب، وما يهمّنا من اتقاء آفات النّفوس، وانحرافها؛ ولأن فيه علاج الآفات النفسية الّتي ينزغ فيها الشيطان نزغه؛ ولأن فيه علاج الأمم في اجتماعها واقتصادها وكافة أمور حياتها. (7)

﴿أحسن القصص﴾؛ ومن العلماء من يرى أن قصّة يوسف أحسن القصص بما اشتملت عليه من عبر متعدّدة؛ عبرٌ في الطفولة، في مواجهة الشيخوخة، والحقد والحسد بين الإخوة، والتمرد وإلقائه في الجبّ، والكيد له، ووضعه سجيناً بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتّى تم له النصر والتمكين. وكيف ألقى الله على يوسف عليه السلام محبة منه؛ ليجعل كلّ من يلتقي به يتسابق على خدمته.

وكيف صان يوسف إرث النبوّة بما فيه من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة، فعفا عن إخوته بما روته السّورة: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 92]، وقالها سيد البشر محمّد لأهله يوم فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".(8 هكذا تمتلئ سورة يوسف بهذه العبر؛ لذللك فهي أحسن القصص، إمّا لأنها جمعت حادثة ومن دار حولها من أشخاص، أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث، أو أنها أحسن القصص، لأن سورة يوسف هي السّورة الّتي شملت لقطات متعدّدة تساير العمر والزمن، والعمر العقلي، والعمر العاطفي للإنسان في كلّ أطواره؛ ضعيفاً، مغلوباً على أمره، وقوياً مسيطراً ممكنا من كلّ شيء.(9)

 

مراجع الحلقة الخامسة والعشرون:

تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6829).

2 يوسف عليه السلام، علي القره داغي، مرجع سابق، ص 37.

3 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6831).

4 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6833).

5 أيها الصديق، محمد خيري، مركز آيات لتعليم القرآن الكريم، حقوق الطبع محفوظة، ص 13.

6 التفسير الموضوعي، مرجع سابق، (4/124).

7 التفسير الموضوعي، مرجع سابق، (4/124).

8 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6835).

9 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6836).

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022