تأملات في قول الله تعالى: ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾
الحلقة: 26
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
30 ذو الحجة 1444ه/ 18 يوليو 2023م
أيّ: أنّ هذا القصص مصدره الوحي الرباني، ولا عِلم لأحد به حتّى يُعلّمك إيّاه، فلا علاقة للنبيّ ﷺ بالقرآن سوى أنّه تلقاه بواسطة الوحي وبلّغَه للناس.(1)
وإنَّ القصص الوارد في القرآن الكريم كان أحسن القصص؛ لأنَّه وارد من العليم الحكيم؛ فهو يوحي ما يعلم أنّه أحسن نفعاً للسامعين في إبداع الألفاظ والتراكيب، فيجعل منه غذاءَ العقل والروح وابتهاج النفس والذوق مما لا تأتي بمثله عقول البشر.
واسم الإشارة: ﴿هذا القرآن﴾، لزيادة التمييز، فقد تكرر ذكر القرآن بالتصريح والإضمار واسم الإشارة ست مرات، وجمع له طرق التعريف كلّها، وهي اللام والإضمار والعلَمية والإشارة والإضافة.(2)
﴿بما أوحينا إليك هذا القرآن﴾؛ أي بإيحائنا، ولا مصدر له، إلّا وحي الله تعالى، فقد أوحي به في ضمن القرآن الكريم ليكون دليلاً على إعجازه وسبباً من أسباب الإعجاز، إذ أخبر بما هو صادق، ولم يكن للعرب علم به عندهم.(3)
- ﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾؛ أي: لمن الغافلين عن تفاصيل ما أوحي الله إليه من الكتاب والإيمان كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، ولقد كان النبيّ ﷺ قبل البعثة مجتنباً لعبادة الأوثان مبتعداً عن مساوئ الأخلاق، متعبّداً لله على التوحيد، لكنّه لم يكن يعلم تفاصيل الإيمان والعلم الّذي امتن الله عليه بإنزال هذا القرآن العظيم على قلبه، وكذلك كلّ عبد لا يتدبر القرآن ولا يتعلمه يكون من الغافلين، فالقرآن ذُكْر لمن يتذكّر، يحيي الله به قلوب من اصطفاهم من عباده، فتستيقظ القلوب لنور التنبيه وتعدّ العدّة للسير عل الصراط المستقيم الموصل إلى رحمة رب العالمين.(4)
قال الشيخ محمّد متولي الشعراوي: والمقصود بالغفلة هنا أنّه ﷺ كان أُمِّياً، ولم يعرف عنه أحدٌ قبل نزول القرآن أنّه خطيب أو شاعر، وكل ما عُرِف عنه فقط هو الصفات الخُلقية العالية من صدق وأمانة؛ وهي صفات مطلوبة في المُبلّغ عن الله؛ فما دام لم يكذب من قبل على بشر فكيف يكذب وهو يُبلِّغ عن السماء رسالتها لأهل الأرض؟
إن الكذب أمر مُسْتبعد تماماً في رسول الله محمد ﷺ قبل البعثة وبعدها.(5) وقال: والغافل هو الذي لا يعلم لا عن جهل، أو قصور عقل، ولكن لأنّ ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله أو أن يكون المقصود بقوله: ﴿لَمِنَ الغافلين﴾ [يوسف: 3]، أي: أنك يا محمّد لم تكن ممَّنْ يعرفون قصّة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى مُعلِّم يروي لك تلك القصّة، ولم تجمع بعضاً من أطراف القصّة من هنا أو هناك. بل أنت لم تَتَلقَّ الوحي بها إلّا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة: اسألوه عن أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟ وكان ضَرْباً من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيان العالي بكل تفاصيل القصّة، كدليل عمليٍّ على أن مُعلِّم محمّد ﷺ هو الله، وأنه سبحانه هو مَنْ أَوحى بها إليه.(6)
وقال الإمام محمّد أبو زهرة: وعَبَّر الله سبحانه بإثبات الغفلة، لَا بمجرد نفي العلم؛ للإشارة إلى أن هذا من دقائق العلم وعميقه الّذي تغفل عنا، العلماء، إلّا من يكون آتاه اللَّه تعالى وحيا من علام الغيوب؛ لأنّه علم بالنّفوس، وخواطرها وما تختلج به الأفئدة، وذلك لا يكون إلّا من عليم، وفيه علم كامل بالاقتصاد من غير تعليم أحد من البشر، فعلم يوسف بالاقتصاد الصالح مع النزاهة النبوية علم من اللَّه، فعلمه اللَّه تعالى تأويل الرؤيا الصادقة، وبها اهتدى ودبر الأمر، وادخر من سني الرخاء للشدة، وكان تدبيره خيرا، وبذلك علم النّاس، ألا يسرفوا في رخاء حتّى لَا يقحطوا إذا اشتدت من بعد.(7) إنّ من أعظم دلائل النبوّة نزول القرآن بقصص لا عهد للنبيّ ﷺ ولا للعرب بها.
وقال الدكتور أحمد نوفل: أمّا وصف الغفلة الّذي وصف به النبيّ ﷺ في هذه السّورة ووصْف ﴿ضالاً﴾ في سورة الضحى، فيعنيان عدم تحصيل العلم. أيّ الأمية، وهذا من باب تقرير الواقع لا من باب الذم - معاذ الله - أمّا الغفلة المذمومة، فهي ما كانت عن تشاغل ولهو، وإعراض بعد معرفة، وفي هذا يظهر فضل الله على هذا الأمة الأمية، وعلى نبيها ويظهر لنا أيضاً أن العقل يكون في غفلة وإن كان ذكياً ألمعيّاً حتّى يتلقى علماً منهجيّاً ينقله إلى دائرة الحضور والوعي (8.
مراجع الحلقة السادسة والعشرون:
التفسير الموضوعي، مرجع سابق، (4/125).
2 التحرير والتنوير، ابن عاشور، مرجع سابق، (7/3787).
3 زهرة التفاسير، مرجع سابق، (7/279).
4 تأملات إيمانية في سورة يوسف، مرجع سابق، ص 17.
5 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6837).
6 المصدر السابق نفسه، (11/9840).
7 زهرة التفاسير، مرجع سابق، (7/3797).
8 سورة يوسف، أحمد نوفل، مرجع سابق، ص 277.
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي