تأملات في الآية الكريمة ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾:
الحلقة: 28
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
- ﴿يا أبت﴾: قال يا أبت، ولم يقل يا أبي وإمّا وضع التاء مكان ياء المتكلم، والتاء لا تأتي بدلاً من ياء المتكلم إلّا مع الأب والأم، وهذان في الدنيا هم الرحماء، ولها دلالة هي التقرب، والتودد والحب والتدلل أيضاً، وكل معنى يسبق إلى قلبك حين تسمع ولدك يقول لك يا أبت، جاء في المؤتمر العلمي لتفسير سورة يوسف: كأنّ هذه الكلمة ﴿يا أبت﴾ من الابن إلى الأب استعطاف واسترحام وتذكير بالأبوّة وواجباتها، نحو الشفقة الّتي تجب مراعاتها والوفاء بها من الطرفين.(1)
﴿إني رأيت﴾: وهذا التوكيد لأمرين:
الأول: غرابة الخبر.
الثاني: شدّة عناية سيدنا يوسف عليه السلام به وفرط اقتناعه به وحرصه على أن يقصّه على أبيه، ثمّ كرر ﴿رأيتهم﴾، وتجوز في دلالة الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر ودل عليهم بضمير جمع العقلاء، وقدم الجار والمجرور في قوله: ﴿لي﴾ والأصل أن يقول: رأيتهم ساجدين لي. ولكن لمّا كان هذا الجار والمجرور هو الأصل في المعنى قدّمه. إنَّ الحق سبحانه وتعالى يعلم دقائق ما جرى في قلب وعقل هذا النبيّ الكريم، فأبان عنه باللسان العربي المبين الّذي أنزل به كتابه لعلكم تعقلون، وما كان للغة من لغات الأرض أن تتسع طرائقها لبيان هذه الخواطر، إلّا هذه اللغة الشريفة، كما قال وقرر خيار علمائنا – رضوان الله عليهم – وسكت يوسف وانقطع صوته ومضت أحداث، وألقي في الجبّ، وخرج منه، وبيع بثمن بخس، ودخل بيت العزيز، ولم نسمع له صوتاً، إلّا لما أرادت امرأة العزيز أن ترميه بما هو بريء منه حينئذ نطق، وقال كلمة واحدة: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ [يوسف: 26].
﴿أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾: أمّا الأحد عشر كوكباً فهم الإخوة، ووصْفهم بهذا الوصف بدل - من أوّل القصّة - أن نهايتهم خيّرة، وأنّهم طيبون، غلب على نفوسهم نزعة الخير، لا نزعة الشياطين ونزعات الشر. ومعلوم أن الرؤى رموز في الغالب، ولا تكون مباشرة.(2)
قال ابن عطية: القمر تأويله: الأب، والشمس تأويلها: الأم، فانتزع بعض النّاس في تقديمها وجوب بر الأم، زيادة على برّ الأب.(3)
وهذا موافق لما ثبت عن رسول الله ﷺ أنّ رجلاً قال: من أحقّ الناس بصحبتي قال: (أمّك)، قال: ثمّ من؟ قال: (أبوك).(4)
والطفل محتاج لأُمّه وعنايتها وحنانها أكثر من حاجته لأبيه، فتعبير الشمس بالأم مستقيم؛ لأنّ الشمس تمدّ الخلق بالحرارة والإشراق، كما تمد الأم ولدها بالدفء والحنان.(5)
قال السعدي: فكانت هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة. وهكذا إذا أراد الله أمراً من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة، توطئة له، وتسهيلاً لأمره، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق، لطفا بعبده، وإحساناً إليه، فأوّلها يعقوب بأن الشمس: أمه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكراماً وإعظاماً، وأنّ ذلك لا يكون إلّا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتّمكين في الأرض. وأن هذه النّعمة ستشمل آل يعقوب، الّذين سجدوا له وصاروا تبعاً له فيها.(6)
وقال ابن عاشور: وابتداءُ قصّة يوسف- عليه السلام- بذكر رؤياه إشارة إلى أن الله هيأ نفسه للنبوءة، فابتدأه بالرؤيا الصادقة كما جاء في حديث عائشة "ن أوّل ما ابتدئ رسول الله- ﷺ - من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح". وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصّة وهو تقرير فضل يوسف- عليه السلام- من طهارة وزكاء نفس وصبر. فذكر هذه الرؤيا في صدر القصّة كالمقدمة والتمهيد للقصّة المقصودة، وجعل الله تلك الرؤيا تنبيها ليوسف- عليه السلام- بعلو شأنه ليتذكرها كلّما حلّت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أنّ عاقبته طيبة.(7)
وقال الشنقيطي في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)﴾. لم يبين هنا تأويل هذه الرؤيا، ولكنه بيّنت في هذه السّورة الكريمة في قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ الآية. ومن المعلوم أنّ رؤيا الأنبياء وحي.(8
وقال الشيخ الشعراوي: وكلنا رأينا الشمس والقمر؛ كلّ في وقت ظهوره؛ لكن حلُم يوسف يُبيِّن أنّه رآهما معاً، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافاً لا حَصْرَ لها، فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكباً فقط؟ لا بُدَّ أنّهم اتصفوا بصفات خاصة ميَّزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى؛ وأنه قام بعدِّهِم.
إن رؤيا يوسف عليه السلام تبيِّن أنّه رآهم شمساً وقمراً وأحد عشر كوكباً؛ ثمّ رآهم بعد ذلك ساجدين. وهذا يعني أنّه رآهم أولاً بصفاتهم الّتي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود؛ ثمّ رآهم وهم ساجدون له؛ بملامح الخضوع لأمر من الله، ولذلك تكررت كلمة (رأيت) وهو ليس تكراراً، بل لإيضاح الأمر.
ونجد أنّ كلمة: ﴿سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4] وهي جمع مذكر سالم؛ ولا يُجمع جَمْع المذكر السالم إلّا إذا كان المفرد عاقلاً، والعقل يتميز بقدرة الاختيار بين البدائل؛ والعاقل المؤمن هو مَنْ يجعل اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين، وأسْمَى ما في الخضوع للدين هو السجود لله. ومَنْ سجدوا ليوسف إنّما سجدوا بأمر من الله، فَهُم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى.(9)
مراجع الحلقة الثامنة والعشرون:
1 مؤتمر تفسير سورة يوسف، عبد الله العلمي، (1/171).
2 سورة يوسف، أحمد نوفل، مرجع سابق، ص 245.
3 المحرر الوجيز، مرجع سابق، (3/1219).
4 أخرجه البخاري، مرجع سابق، رقم: 5971.
5 إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف والنيف من سورة يوسف عليه السلام، محمد بن موسى بن نصر (1/54).
6 تفسير السعدي، مرجع سابق، ص 500.
7 التحرير والتنوير، مرجع سابق، (12/208).
8 أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، (3/51-52).
9 تفسير الشعراوي، مرجع سابق، (11/6844).
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي