السؤال
عندما نقرأ القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى يتكلَّم عن نفسه بصيغة الجمع، مثل "نحن" أو "إنَّا" وغيرها من الألفاظ المخصصة للجمع، فنريد أن نعرف لماذا يتكلم الله -سبحانه- عن نفسه بهذه الصيغة، أي باستخدام صيغة الجمع، ونحن نعلم أنه واحد؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قد يجيء الجمع في موضع المفرد، ويكون ذلك لأغراض، منها التعظيم، وقد ورد مثل هذا الأسلوب كثيرًا في القرآن الكريم، فنجد الله -الواحد الأحد الفرد الصمد- في كثير من الآيات يذكر نفسه بصيغة الجمع، فعلى سبيل المثال لا الحصر ورد ذلك في قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" [البقرة: 83].
فمن المعاني المستفادة من الآية بيان عظمة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: "وإذ أخذنا"؛ لأن الضمير هنا للتعظيم؛ وهو سبحانه وتعالى العظيم الذي لا أعظم منه..
وجا في قوله تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البقرة:106] فقال (ننسخ) بضمير الجمع للتعظيم؛ وليس للتعدد؛ لأن الله واحد.
وفي قوله تعالى: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ" [البقرة 144- 145].
في قوله (فلنولينك قبلة)؛ فإن ضمير الجمع للتعظيم، وكذا الحال في قوله (نرى).
وفي قوله تعالى "وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً" [الكهف:80] فقد قال تعالى "فَخَشِينَا" فأتي بضمير الجمع للتعظيم.
يقول شيح الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- "إن الله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع كقوله: "إن فتحنا لك فتحاً مبيناً" وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدَّس عن ذلك.
ومن المؤكد أن من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع، فيقال للرجل العظيم: (انظروا في أمري)، فيخاطب بصيغة الجمع تعظيمًا له.
جدير بالذكر أنَّ القرآن نزل موافقًا للغة العر ب في كثير من الأمور التي تعارفوا عليها فيما بينهم، ففي قوله تعالى: "إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ" [الصافات:64-65]. يقول الألوسي شارحًا لمعاني التشبيه في قوله تعالى "كأنه رؤوس الشياطين"، أي في تناهي الكراهة، وقبح المنظر.. والعرب تشبِّه القبيح الصورة بالشيطان، فيقولون: كأنّه وجه شيطان، أو رأس شيطان وإن لم يروه؛ لما أنه مستقبح جدًّا في طباعهم؛ لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير، فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة.. والتشبيه بشيء لم يره الناس ورد كثيرًا في لغة العرب، من ذلك قول امرئ القيس:
أَيَقْتُلُني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي **** ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ
فشبَّه بأنياب الأغوال ولم يرَها؛ لما ارتسم في خياله، وعلى عكس هذا تشبيههم الصورة الحسنة بالملَك رغم أنهم لم يروه؛ وذلك لأنهم اعتقدوا فيه خيرًا محضًا لا شرَّ فيه، فارتسم في خيالهم بأحسن صورة، وعليه قوله تعالى "ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم".. والله أعلم..
المجيب
د . صالح إبراهيم مضوي