قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيم﴾ [الحشر: 10].
بهذه الآية القرآنية التي تتجلّى فيها معاني وقيم الإنصاف والعدل والمحبة الأخويّة والإيمانيّة، والفطرة السليمة، ونقاء القلب بين عباد الله المؤمنين، أردتُّ أن أفتتح مقالتي، على بركة الله، وأنا في لهفة ورغبة في البحث والقراءة والكتابة عن سيرة أحد شيوخ الإسلام في زمانه، وقامة علمية شامخة من قامات علماء أهل السنة والجماعة في الفقه والحديث واللغة والزهد وفضائل ومعارف كثيرة؛ إنّه الإمام محيي الدين أبو زكريّا النوويُّ (رحمه الله تعالى).
وإنَّ ما شدّ انتباهي خلال متابعة الردود على الجدل الحاصل، والتشويه لسيرة الإمام النووي (رحمه الله) كلامٌ قرأته للشاب الجزائري المجتهد الحاذق، وطالب العلم الغيور عبد الرحمن قارف -جزاه الله خيراً- في إنصاف الإمام النووي (رحمه الله)، وقبل التَّبحر في تفاصيل سيرته الطيبة العطرة، أردتُّ الاستشهاد بكلام عبد الرحمن عن الإمام النوويّ في ردّه على بعض المهاجمين له بقوله:
"ما دمتَ تسأل هذا السؤال فلا أظنك مِن حُذّاق الطلبة والباحثين المتخصصين، ولذلك أنا لي ولك ناصحٌ باجتناب المسألة في هذا الشأن قدرَ المستطاع، فإنَّ هذا تعمُّق في غيرِ طائل، لم يُكلِّفنَه دينُنا ولا حثَّنا عليه نبيُّـنا، وليس البحثُ فيه إلا ضربٌ مِن ضروب الجدل المـُفضي إلى التّنازع بين الإخوان إن لم تكُن سلطةُ الأخلاقِ منهم فيه قائمةً. وأما المناظرة فقد قُتِلت انتقاداً، ولم ترجع على النّاس بخير كثير على ما يظهر، ومشاهدتها مِن قِبَل غير المتخصصين محضُ تضييع للوقت".
ويضيف عبد الرحمن: "الإمام النووي رجل عظيم، وقامة علميّة شامخة، ونابغة من نوابغ الإسلام، وليس له منا إلا الترحم والاستغفار له، وكلُّ مَن أثار حوله ما أثيرَ سيُحاسَب… وأقولُ لك- ونحن أبناء القرن الواحد والعشرين الطافح بالفِتن- كما قال الإمام الحافظ الذهبي رحمة الله عليه:
ينبغي للمسلم أن يستعيذ مِن الفتنِ، ولا يَشغبَ بذِكر غريب المذاهب لا في الأصول ولا في الفروع، فما رأيتُ الحركةَ في ذلك تُحصِّلُ خيراً، بل تُثيرُ شراً وعداوةً ومَقْتاً للصُّلحاء والعُبَّـاد مِن الفريقين، فتمسَّكْ بالسُنة، والزَمِ الصمتَ، ولا تخُضْ فيما لا يعنيك، وما أشْكِلَ عليك فرُدَّه إلى الله ورسوله، وقِف وقُل: اللهُ ورسولُه أعلم".
ومن يلحظ هذا الدّفاع والغيرة على الإمام النووي (رحمه الله)، يتوسّم في فكر هذا الشاب النباهةَ والنبوغ والتفقّه في الدين، وأسأل الله تعالى، إن مدَّ في عمُره، أن يكون له شأن في نشر العلم النافع، والدّفاع عن تاريخ الإسلام، وخدمة المسلمين (إن شاء الله).
والآن السّؤال الذي يطرح نفسه: من هو الإمام النووي، وما قصته؟ وأين تجلّى أثره الكبير في الانتصار لدين الإسلام؟
الإمام النووي.. أصله ونشأته:
الحافظ الفقيه واللغويّ وعالم الحديث، وهو أحد أكبر شيوخ أهل السنّة والجماعة في زمانه، وأبرز شيوخ الفقه الشافعي؛ العلامة الإمام محيي الدّين أبو زكريّا يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزَام، النوويُّ، نسبةً إلى نوى، وهي قرية من قرى حَوْران (في محافظة درعا حالياً) في سوريا، وقد ولد الإمام النوويُّ في شهر محرّم سنة إحدى وثلاثين وستمئة.
وذكر والده (رحمه الله) أن الشيخ كان نائماً إلى جنبه، وقد بلغ من العمر سبع سنين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، قال: فانتبه نحوَ نصف الليل، وأيقظني وقال: يا أبتي، ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهله جميعاً فلم نرَ كلنا شيئاً. قال والده: فعرفتُ أنها ليلةُ القدر.
ذكر ابن داود العطار عن ياسين بن يوسف المراكشي قوله: "رأيت الشيخ محيي الدين؛ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصِّبيان يُكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأُ القرآن في هذه الحالة، فوقع في قلبي محبّتُه، وجعله أبوه في دكّان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يُقرئه القرآن، فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجّم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه، إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام".
ومن الأخبار العظيمة التي تدلّ على أنّ الإمام النووي كانت له سيرة مميّزة، ما يرويه عن نفسه: كنت مريضاً بالرواحية، فبينا أنا في ليلة في الصفة الشرقية منها، وأبي وإخوتي نائمون إلى جنبي؛ إذ نشطني الله وعافاني من ألمي، فاشتاقت نفسي إلى الذكر، فجعلت أُسبّح، فبينا أنا كذلك بين السرّ والجهر، إذ شيخٌ حسن الصورة، جميلُ المنظر، يتوضأ على البرْكة في جوف الليل، فلما فرغ أتاني، وقال: يا ولدي لا تذكر الله؛ تشوشُ على والدك وإخوتك وأهل المدرسة. فقلت: من أنت؟ قال: أنا ناصح لك، ودعني أكون من كنت. فوقع في نفسي أنّه إبليس فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ورفعت صوتي بالتسبيح، فأعرض ومشى إلى ناحية باب المدرسة، فانتبه والدي والجماعة على صوتي، فقمت إلى باب المدرسة فوجدته مقفلاً، وفتَّشتها فلم أجد فيها أحداً غيرَ أهلها. فقال لي أبي: يا يحيى ما خبرك؟ فأخبرته الخبر، فجعلوا يتعجبون، وقعدنا كلنا نسبح ونذكر.
أخلاق الإمام النووي وصفاته:
كان الإمام النووي مهيباً، وقليل الضحك، وعديم اللعب، وكان يقول الحقَّ وإن كان مراً، وهو لا يخاف في الله لومة لائم، وكان الزهد والورع والتُقى أهم ملامح شخصيته؛ حيث أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أنه كان شيخاً في الزهد، وقدوة في الورع، عديم النظير في مناصحة الحكام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان رحمه الله لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العِشاء الآخرة، وكان لا يأخذ من أحد شيئاً، وكان كثيراً ما يكاتب الأمراء والوزراء، وينصحهم لما فيه خير البلاد والعباد.
رحلة الإمام النووي إلى دمشق:
تميّز الإمام النووي (رحمه الله) منذ صغره بحرصه على طلب العلم وتحصيله، ومن ذلك: حفظ كتاب التنبيه في فروع الشافعية في أربعة شهور ونصف، وحفظ ربع العبادات من المهذّب. ومما أجمع عليه من أرَّخ للنووي -وعلى رأسهم تلميذُه العطّار- أنه في سنة (649) قدم النوويُّ إلى دمشق رفقةَ والده وهو ابن ثمانيَ عشْرة سنة، وقد كانت دمشق محجَّ العلماء وطلبة العلم، وحين استقرَّ النوويُّ في المدرسة الرواحية، واطمأنت نفسه في مسجده أقبل على طلب العلم بكلّ ما يعتلج بقلبه وعقله من جدٍّ وشغف واستعداد، ولقد كان ذلك من مضرب المثل، ومثال العجب، قال (رحمه الله): وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض. ويقول الذهبي: "وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلا ونهاراً، وهَجْره النوم إلا غلبةً، وضبط أوقاته بلزوم الدرس، أو الكتابة، أو المطالعة، أو التردد على الشيوخ".
شيوخ الإمام النووي وحياته العِلمية:
لما قدم الإمام النووي (رحمه الله) إلى دمشق توجه إلى حلقة مفتي الشام تاج الدين الفزاري المعرف بالفركاح، فلازمه يقرأُ عليه مدّة، وهذا أوّل شيخ للنوويِّ، ثم دلّه الفركاح على الكمال إسحاق المغربي فلازمه، وأكثر قراءته عليه، وأكثر انتفاعه منه. ويحدث عن انتفاعه بدروسه وعن تشجيعه وتقديره، بقوله: وجعلتُ أشرح وأصحِّح على شيخنا الكمال إسحاق المغربيّ، ولازمته فأُعجب بي، لِما رأى من ملازمتي للاشتغال وعدم اختلاطي بالنّاس، وأحبّني محبة شديدة، وجعلني مُعيد الدرس بحلقته لأكثر الجماعة. كما كان من شيوخه في الفقه مفتي دمشق: عبد الرحمن بن نوح، ثم عمر بن أسعد الإربلي، ثم أبو الحسن سلار بن الحسن الإربلي.
تتلمذ الإمامُ النوويّ على يد كثير من المشايخ والعلماء، ومنهم: محمد بن أحمد المقدسي، وسمع من إسماعيل بن ابراهيم بن أبي اليسر، وأحمد بن عبد الدائم، وخالد النابلسي، وعبد العزيز الحموي الأنصاري، والحسن بن محمد البكري، وعبد الكريم بن عبد الصمد، وعبد الرحمان الأنباري وغيرهم
وتميزت حياته العلمية بعد وصوله إلى دمشق بثلاثة أمور:
الأول: الجدّ في طلب العلم، والتحصيل في أول نشأته وفي شبابه.
الثاني: سعَة علمه وثقافته، وقد جمع إلى جانب الجدّ في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، فقد كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً.
الثالث: غزارة إنتاجه، فقد بدأ به عام (660 هـ) أيْ في الثلاثين من عمره، وقد بارك اللّه له في وقته، وأعانه، فأذاب عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةَ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار، وما زالت مؤلفاتُه حتى الآن تحظى باهتمام كل مسلم.
وكان النووي لا يضيع وقتاً في ليل أو نهار إلا في الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه كان يشتغل في تكرار أو مطالعة، وبقي على التَّحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين؛ ثم اشتغل بالتصنيف والمناصحة للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، وكان بعيد المراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من السوء، يحاسب نفسه على الخطْرة بعد الخطْرة، وكان مُحَقِّقاً في علمه وفنونه، مدققاً حافظاً لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عارفاً بأنواعه كلّها، من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه، وصحيح معانيه، واستنباط فقهه، كما صرف أوقاته كلّها في أنواع العلم والعمل؛ فبعضها للتّصنيف، وبعضها للتّعليم، وبعضها للصّلاة، وبعضها للتّلاوة، وبعضها للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وقد حدَّثَ تلميذُه علاء الدين بن العطار -على لسان النوويّ- عن فترة التحصيل والطلب، أنه كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً؛ درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في اللُمع لابن جنّي في النحو، ودرساً في إصلاح المنطق لابن السكّيت في اللغة، ودرساً في الصرف، ودرساً في أصول الفقه، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل، وإيضاح عبارة وضبط لغة.
وسمع منه خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق، وانتفع النّاس في سائر البلاد الإسلامية بتصانيفه، وأكبُّوا على تحصيل مؤلفاته.
يقول الذهبي في ترجمة الإمام النووي: "ثم سمع الحديث، فسمع صحيح مسلم من الرضيّ ابن البرهان. وسمع صحيح البخاري ومسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وجامع الترمذي، ومسند الشافعي وسنن الدارقطني، وشرح السنة وأشياء عديدة.