(الموازنة بين التميُّز والاندماج في المجتمعات الغربيَّة)
من كتاب "فقه الحياة"
لمؤلفه الشيخ سلمان العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: 38
فإنه يقَع كثير من التردُّد لدى المجموعات الإسلاميَّة هناك؛ إذ يصير بعضُهم إلى الذوبان التامِّ، وفقدان الهويَّة والخصوصيَّة الإسلاميَّة، ويصير آخرون إلى إفراط في التميُّز يحملُهم على المشقَّات والتكاليف الباهظة، ويحول دون التأثُّر أو التأثير الإيجابيِّ، وربما فَعَلَ بعضُهم هذا بضرْبٍ من التفقُّه أو التسنُّن، حتى إني رأيتُ بعضَ الشبابِ المقيمين في مجتمعاتٍ مفتوحة ترحِّب بهم، ولا تأنَف منهم، وتحميهم، وتقدِّم لهم سائرَ الحقوق.. وهم لا يفتؤون يردِّدون نقولًا وأقوالًا ورواياتٍ، ولا يفقهون أسانيدَها ولا متونها ولا تطبيقاتِها!
قال لي أحدُهم عن حديث: «أَنَا بَرِيءٌ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الـمُشْرِكِينَ»، فقلت له: رواه النسائيُّ، وهو حديث مُرْسَل، أخرجه الشافعيُّ في «مسنده»، وابن أبي شيبة في «مصنفه»، مُرْسَلًا من طُرُقٍ عن قيس بن أبي حازم. والنسائيُّ في «السنن» مرسَلًا عن أبي معاويةَ، عن قيس بن أبي حازم، وأخرجه أبو داود، والبيهقي في «السنن الكبرى»، والطبراني في «الكبير» موصولًا، من طرق عن أبي معاويةَ، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، وأخرجه الترمذي من طريق أبي معاوية مثله، موصولًا ومرسلًا، وقال ابن دقيق العيد: الذي أسنده عندهم ثقةٌ. وقال ابن الملقن عَقِبَه: يعني فيكون مقدَّمًا على رواية الإرسال. وأخرجه الطبرانيُّ أيضًا في الكبير موصولًا عن قيس بن أبي حازم، عن خالد بن الوليد، قال الهيثميُّ: رجاله ثقات. ورجَّح البُخاريُّ وأبو داود والترمذيُّ وأبو حاتم والدارقطنيُّ إرسالَه. قال البخاريُّ: الصحيح عن قيس بن أبي حازم مرسل. وقال أبو داود والترمذيُّ: قد رواه جماعة ولم يذكروا فيه جريرًا، وهو أصحُّ. وكذا قال أبو حاتم الرازيُّ والدارقطنيُّ: الصحيح أنه مُرْسَلٌ.
فطفق يصحِّحه، وينقل كلامَ بعض الأئمة، فقلت له: فما مقامُك هنا؟ وأنت إنما تستكثر من الحجج على نفسك، وما أتيت داعيًا، ولا مُصْلِحًا، ولا فارًّا بدينِك، فعدْ إلى مَأْمَنِك، ودَعْ عنك الأقاويل!
إن القيادات الإسلامية مسؤولة عن الرُّقِيِّ بأتباعها، أو بمَن شاء منهم، إلى مستوى الوعي والتعارف، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، ومسؤولة عن التعايش الناضج مع المجتمعات، والانفتاح الرشيد على خصائصها الحسنة، كالنظام، والذوق العامِّ، والقيم الجماليَّة، والفَهم لطبائعها ومَداخلها، والحذر والتوقِّي مِن سلبياتها وعيوبها، وأنْ تقدِّم نموذجًا عمليًّا صادقًا لما تدعو إليه؛ بدلًا من الانهماك في المهاترات والجدل، والقيل والقال الذي نهى عنه النبيُّ ﷺ، كما في الحديث المتفق عليه.
ومن ذلك: معرفة حقِّ الثابت، وحقِّ المتحول، أو حقِّ الضروريِّ القطعيِّ، وحقِّ الاجتهاديِّ الظنِّي، أو حقِّ الأصول وحقِّ الفروع.
والذي يجمع هذه الجملَة، قولُه سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.
فقرَّر الأصل، وسمَّاه «الثابت»، وهو أصل الدين الجامع الذي به قِوام الْمِلَّة واجتماع الأُمَّة: من الأركان الخمسة، والأركان الستة، والإحسان، ومكارم الأخلاق، وأصول الـمُحَرَّمات الـمُجْمَع عليها.
وبين الفرع الذي في السماء، وهو مُتَّصل بالأصل يقينًا، كاتصال فروع الشجرة بأصلها، ولكن الريح تُفَيئُه مرَّة، وتُقيمه أخرى، وهو عُرْضَة للتغيير، ولو ذبُل بعضه لنَبَتَ ما هو مثلُه أو خيرٌ منه..
وهذا من إعجاز الأمثال في القرآن الكريم؛ فإنَّ الحديث الـمُفَصَّل عن هذا المعنى لا يكاد ينتهي، وسبحان مَن أنزل الكتاب هُدًى وبيانًا، وحجَّة على الناس أجمعين.
والموازنة هنا تقتضي ألَّا يقوم الفرع مَقام الأصل، فيصبح سببًا للخلاف، أو مَعْقِداَ للولاء والبراء، أو مثارًا للجدل والعراك، وألَّا يقومَ الأصلُ مكانَ الفرعِ، فيصير غَرَضًا للتغير والتبديل والتلاعب، وألَّا ينفصلَ الفرع عن الأصل، ولا يُعَرَّى الأصل من الفرع.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 122-123