(في طريقة تعاملنا مع الأزمة)
من كتاب "فقه الحياة"
لمؤلفه الدكتور سلمان العودة
(فرج الله عنه)
أولًا: الحريَّة قيمة مُقَدَّسة شرعًا، خاصَّة للعالِم والـمُثَقَّف والمؤثِّر، وأعني بالحريَّة ألا يكون صدىً لما يطلبه منه المستمعون، لا حاكم ولا ثائر، وإنما يراعِي مصلحة الأُمَّة المستقبليَّة، ويراعي الحفاظ على الأرواح، والممتلكات، والأمن والبنية التحتيَّة، والضرورات الشرعيَّة المطلوبة.
ولقد كان (البعثيون) يومًا من الأيام يعتبرون أنه ما دام حزب البعث في السلطة فلا يضرُّ مهما بلغت الخسائر، ومن الخطأ الكبير أنْ يكرِّر بعضُ الإسلاميِّين هذه التجربة، ويضخُّون أموالًا وأرواحًا في معارك خاسرة، قد يخوضونها بالوكالة عن غيرهم.
إن الحريَّة هي الصدق مع الله تعالى، ثم الصدق مع النفس، ولو لم توافِق الآخرين، ولا بأس بالتلطُّف في العبارة؛ لكن بدون مجاملة، فهناك من إذا أرادوا أن يتحدَّثوا عن هذا الأمر أو ذاك من أحداث الحادي عشر من سبتمبر.. إلى ما يقع اليوم.. إلى غيرها.. يتلفت الواحد منهم ذات اليمين وذات الشمال، ولا يستطيع أن ينتقد بعض ما يَجْري؛ لأنَّه لا يستطيع أن يتخلَّص مِن عاطفته.
إنَّ الأحداث التي حصلت في سبتمبر، ثم ما تلاها من ضربات في العالم الغربيِّ، ثم في غيره، حتى وصلت إلى البلدان الإسلاميَّة، ترتب عليها أنَّ أكثر مَن يدفع هذه الفواتير هم المسلمون، سواءً مِن نزيف الدماء، أو من سقوط دول وتَعَرُّضها للانهيار، كالعراق وأفغانستان، أو مِن قَتْلِ الآلاف الـمُؤلَّفةِ مِن الناس، أو مِن سُوءِ ظَنِّ الناس بدينهم، حتى مِمَّن يعيشون في الأوساط الإسلاميَّة، فضلًا عن كثير من العالم الغربيِّ الذين صار الإسلام عندهم مُرْتبِطًا بالدمويَّة والقسوة والعنف، وفَاتَهم أنه دين الرحمة والحبِّ والسلام.
إن الحياد من الحريَّة، وهو ضروريٌّ للرأي الحكيم، ومُحَال أن يكون الإنسان محايدًا تمامًا، ولكن عليه أن يحاول، فيجب أن نُوَسِّع مجال الاختلاف، وألاَّ نغسل أيديَنا مِن الآخرين بمجرَّد أنَّنا نختلف معهم.
إنَّ كثيرًا مِن الصدامات تفاقم المشاكلَ وتزيدُها، فالصِّدام مِثْلُ الكيِّ، هو آخر الدواء، ولذلك كان النبيُّ ﷺ يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّـهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا..».
والأُمَّة ليست مُؤَهَّلة لخوض حروب مع الأعداء اليوم، ولكن إذا فُرِضَت عليها حروبٌ في حالات خاصَّة، فلا بدَّ مِن التعامل معها.
فينبغي أن نُدْرِك أنَّه مهما وُجِدَ عندنا من الدوافع، ومن الشروط، فإنَّ هناك موانعَ قد تَحُولُ دون ما يتطلَّبه الإنسان ويتمنَّاه، وليس هذا إلغاءً لقانون التَّدَافُعِ، فإنَّ التَّدَافُعَ سنةُ الله سبحانه وتعالى؛ لكنه ليس هو الأصل، وإنما الأصلُ أنَّ الإنسان يعملُ، ويبني، ويُصْلِح، ويُؤَسِّس، ويكون إيجابيًّا، ثم يدفع ما يَعْرِض له.
إن الاستغراق في الأزمات، وإخراجها من سياقها الطبيعيِّ، ونسيان الحياة -مع أن الحياة مكتظَّة بالإيجابيات- غيرُ سديدٍ، بل الأزمات فُرَصٌ إذا أحسنا توظيفها واستثمارها..
إن كل أزمة هي مشكلة وتَحدٍّ، وهي فرصة في الوقت ذاته، فالحياة مليئة بالأشياء الإيجابيَّة، قد تجد في المجتمع أخطاءً، وانحرافات أخلاقيَّة، لكن هذا لا يلغي الصالح الكثير، و«مَن قال: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ»، كما يقول النبي ﷺ.
فلا تتجاهل الواقع، ولا تختصره في جوانب مُعَيَّنة أو أحداث محدودة، فهناك فَرْقٌ بين مَن يذكر بعض الأخطاء في سياقها، وبين مَن تسيطر عليه الأخطاء أو الإخفاقات الموجودة في المجتمع، فيُلِحُّ عليها إلحاحًا كثيرًا، وتُشَكِّل عنده موقِفًا فكريًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا، وتصبغ شخصيَّته حتى لا يتكلَّم إلا بها، وينجم عن ذلك أنَّ الكثيرين يكبِّرون الأزمات، ويعتبرون أنها (هرمجدون) القادمة، وأنها مؤذِّن المهدية، وكأنَّ الأزمة شرٌّ لا خير فيه، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يخلق شرًّا مَحْضًا، وهذه الأزمات لا بدَّ أنْ يكون فيها قَدْرٌ من الخير.
وينبغي أن ندركَ أنَّ عنصر الزمن يعطي المشكلة حجمها الحقيقيَّ، فكثير مِن الأزمات التي عشناها ورأيناها على مدى عمرنا المحدود، وكنا نظن أنَّ هناك انقلابًا هائلًا سيَحْدُث في الكون، تبين أنها تهدأُ بمضي الوقت، ويصبح النظر إليها أكثر اعتدالًا وواقعيَّة، وأنَّ التحليلاتِ الإعلاميَّة والعسكريَّة وغيرها، أعطت بُعْدًا أكبر لهذه الأزمة.
إن من أكبر الخطأ أن نتحوَّل إلى أُناس مأزومين نفسيًّا، فتؤثِّر الأزمة في تفكيرنا، ونفسياتنا، وفي دراستنا، وعملنا، وعلاقتنا مع الآخرين..
لقيتُ يومًا مِن الأيام أحدَ التجار، فأخذ يُحَدِّثُني ويسألُني: هل ترى أن أعتزل، وأذهب إلى مكان بعيد في غنمات أَتَّبِعُها، أو نخلات أزرعُها؟ فإنني أخاف أن يكون قد اقترب الأمر!
قلت: نعم، الأمر قد اقترب منذ بُعِثَ النبيُّ ﷺ؛ لكن حَذَارٍ حَذَارٍ أن تتحوَّل الأزمة مِن خارجنا إلى داخلِنا، فلا بد من تَجَنُّبِ الشائعات والأراجيف والظنون والتوهُّمات، وضبط الحماس، وامتصاص الصدمة، وعدم الاندفاع العشوائيِّ، والناس ثلاثة: إنسان مُتَهَوِّر، وآخر لامبالٍ، وبينهما الوسط، والمطلب هو الانضباط.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب"فقه الحياة" للشيخ سلمان العودة، صص 167-170