مقياس الاختيار للقيادة والمناصب في اصطفاء الله تعالى لطالوت (عليه السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (13)
- ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾؛ لقد اعترض بنو إسرائيل على اختيار طالوت بأنه ليس خيراً منهم سلالة ومحْتَدا، وأنه ليس ذا مال وفير، فردّ نبيُّهم قولَهم، بأمرين:
أولاً: الله تعالى اصطفاه؛ أي اختاره من الصفوة وأهل الهمة والنبل، وقال: ﴿اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾، ولم يقل منكم مع أنه منهم، للإشارة إلى فضله عليهم واستعلائه بما منحه الله من خواص وصفات، وإنه كان يكفي اصطفاء الله له ليسكنوا ولا يعترضوا، لأنه ليس فوق إرادة الله إرادة وليس لهم الخيرة فيما اختاره الله؛ ولأنهم فوّضوا أمر اختيار الملك إلى النبي، وقد اختاره الله ربهم ورب النبي.
ثانياً: ردّ نبيُّهم على اعتراضهم ببيان المقياس الصحيح لعظم ومكانة الرجال، واستعدادهم لقيادة الشعوب إلى مواطن العزة والشرف، وقد عدّوا المال والنسب مقياس العظمة، فبيّن لهم مقياسها، فقال: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾؛ أي أنه أعظم منكم جميعاً؛ لأن الله سبحانه زاده عليكم في الأمرين الَّذَيْن هما سبب القيادة والحكمة، وهما:
أ- قوة العقل وسعة العلم وكثرة التجارب.
ب- وقوة الجسم؛ أي القوة والمتانة.
وخص بعضهم بالكفاية فيه، فإذا كان الملك أعلى المناصب، وإذا كانت الرياسة الكبرى أعظم الأعمال، فليس الذي يؤهل للمناصب السعة والمال، بل الكفاية لها والقدرة عليها، ففي الآية الكريمة إشارة إلى مقياس العظمة، وإلى مقياس الاختيار للأعمال والمناصب.
وإن البسطة في العلم معناها الاتساع في الأفق والتجارب، وقوة العقل والتدبير والإحكام في التفكير، فالبسطة معناها الاتساع، وإذا أضيفت إلى العلم؛ فمعناها الاتساع والإحاطة بكل ما يوجه العقل إلى التفكير المستنير مع سلامة العقل ذاته.
وإن بسطة الجسم اتساعه، لا بمعنى كثرة اللحم والشحم؛ بل بأن يكون سبط العظام، ومديد القامة، وهناك تباعد بين المنكبين، وقد يراد بسطة الجسم تلك الحقيقة، والمقصود: يلقي -في الحرب- منظره بالخوف في قلوب الأعداء، وبالهيبة في قلوب الأولياء. أو يراد بسطة الجسم مطلق القوة؛ لأن طويل العظام عريض ما بين المنكبين يكون في جميع الأحوال قوي الجسم، فأطلق ذلك، وأريد مطلق القوة، ويلاحظ أنه قدمت بسطة العلم على بسطة الجسم بمقدار الحاجة إلى قوة الرأي والتدبير وسعة العلم وكثرة التجارب.
- ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾؛ إذ ذيّل الله سبحانه هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية للدلالة على أمرين:
أولاً: أن الأمور كلها بيده سبحانه وتعالى، وأنه فعّال لما يريد، وأن ما شاء في هذا الكون يقع، ومالا يشاء لا يقع، وأنه سبحانه يؤتي الملك في الدنيا لمن يشاء وأنه هو المسيطر عليه؛ ولذلك أضيف الملك إليه قال: ﴿مُلْكَهُ﴾؛ فهو إذ يعطيه لمن يعطيه هو الغالب على أمره يستطيع أن يسلبه في أي وقت شاء، فهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وهو القاهر فوق عباده.
ثانياً: أن كل شيء في الوجود تحت سلطان الله تعالى، وهذا معنى أن الله واسع؛ أي محيط بكل شيء، وقد وسع كل شيء برحمته وقدرته، وأنه يدبِّر الأمورَ على مقتضى العلم الواسع الشامل؛ فهو يربط الأسبابَ والمسبباتِ، وهو يعطي لحكمة يعلمها، ويمنع لحكمة يعلمها، وهو يبتلي الأمم بالقوة والضعف والعزة والذلة، والهزيمة والانتصار، والبأساء والضراء، ثم النعماء والسراء، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنةً وإلينَا تُرْجَعُوْنَ﴾ [الأنبياء: 35].
وعلى الأمم المغلوبة أن تتخذ الأسباب بجمع الكلمة وتأليف القلوب، وتحرير النفوس من ربقة الأهواء والشهوات، ولا تستسلم للضعف، ولا تستحذى وتناضل، وتكافح وتصابر، وتتوكل على الله. وإلى الله مصير الأمور.
ومن فوائد هذه الآية:
- الأنبياء لربهم وحسن أدبهم معه، وسعيهم في طاعة الناس له.
- وجوب السمع والطاعة لله ورسله.
- في الآية مراعاة الدِّين والبدن في اختيار القائد وفيها أنه كلما كان الخليفة والملك ذا صفات ومزايا أعلى، كان أعون له على الحُكم وانقياد الرعية له.
- أن فضائل النفس مقدمة على المال.
- أن ملك العباد هو في الحقيقة ملك لله، وأن الله يؤتيه إياه، ابتلاء واختباراً.
- من الناس من ينخدع بالأمور المادية الدنيوية المحسوسة، ويغفل عن الحقائق والفضائل النفسية والمعنوية.
- أن العلم أفضل من قوة البدن، لأنه قدمه بالذكر في الآية.
- أن الإمامة لا تستحق بالإرث ولا الغنى.
- إنه لا يشترط في ولاة الأمر أن يكونوا أغنياء.
- أن قوة الرأي اللازمة للقيادة تنبع من العلم.
- حُسن الإجابة عن الاعتراضات وإزالة الشبهات. فإنهم لما اعترضوا على نبيهم وألقوا بشبهاتهم رد عليهم وفنّد كلامهم، فأخبرهم أولاً أن القصة اصطفاء من الله الذي يجب له الطاعة والتسليم والانقياد لحكمه.
- ثم لفت نظرهم إلى أن هذا الرجل الصالح فيه من المميزات ما هو أولى من نسب الملك وسعة المال.
- ثم بيَّن لهم أن الله أعلم بمن يصلح للملك، وأن اصطفاءه عز وجل لحكمة. ثم ذكر لهم من صفات الله ما يناسب الحال والمقال.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 71-74.
- محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987م، ص (2/893).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: