فضيلة الثبات والصبر عند اللقاء في قصة طالوت (عليه السلام) وجنده
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك
بقلم د. علي محمد الصلابي
الحلقة (15)
أنواع الصبر:
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 250]:
نمضي مع القصة، فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من أمر الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في نصرة الله، وأنه مع الصابرين؛ إذن هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة والثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقتلها... إذن هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة، بعد أن تجدد عهدها مع الله وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرهيب.
1- ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾:
دخلوا أرض المعركة البارزة الواضحة المستوية المكشوفة؛ وذلك استعداداً لملاقاة الجيش الكافر وقتاله.
2- ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾:
تعبير يصور مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالاً للهول والمشقة.
3- ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾:
فهي في يده -سبحانه- يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾. فقد وضح الموقف: إيمان تجاه كفر، وحق إزاء باطل، ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين. فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصور، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق. وقد قال الدكتور صلاح الدين الخالدي (رحمه الله): وهناك لفتة في ترتيب جمل الدعاء الثلاثة: الصبر، وتثبيت الأقدام، والنصر على الكافرين؛ وأن هذه الجمل الثلاثة مرتبة ترتيباً مرحلياً، وكل واحدة مبنية على ما قبلها، وأول ما يحتاجه المجاهدون هو الصبر، ولهذا قال هؤلاء المجاهدون: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾، والصبر بمفهومه الشامل، ومنه الصبر على مواجهة الأعداء وقتالهم. والصبر في المعركة مقدم على ثبات الأقدام فيها، وهو سلاح معنوي نفسي ضروري للمجاهدين، وهو السلاح الإيماني المعنوي، وإنه مقدم على السلاح المادي.
وإننا نلاحظ بأن هؤلاء المجاهدين استعلوا على متاع الدنيا، وطلبوا ما عند الله، فعندما رأوا النهر-وهم في حاجة إلى الماء- اكتفى كل منهم بأن يغترف غرفة واحدة بيده، يبل بها ريقه، بينما الصبر يريدون منه الكثير، ولذلك يطلبون من الله أن يفرغه عليهم إفراغاً ويصبّه عليهم صبّاً، ليشمل كيانهم، ويستغرق ويستوعب محيطهم، وإفراغ الصبر عليهم يقود إلى ثبات أقدامهم في الميدان واستبسالهم في الجهاد وعدم الهرب من الحرب: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾، فلن تثبت إلا أقدام الصابرين، أما الجبناء الخائفون الجزعون فلن تثبت أقدامهم في الميدان، ولهذا يولّون الأدبار، وإذا ما صبر المجاهدون، وثبتت أقدامهم في الميدان؛ فإنهم يكسبون المعركة، وينتصرون على الأعداء، ولهذا طلبوا من الله النصر في آخر الأمر ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
إن النصر في المعركة نتيجة لما قبله، ولن يتحقق إلا إذا تحقق ما قبله، فلن ينتصر إلا الصابرون على المواجهة، الثابتون في المعركة.
وقد طلب المجاهدون من الله أن ينعم بالأمور الثلاثة: إفراغ الصبر، تثبيت الأقدام، والانتصار على الكافرين؛ ولهذا أسندت الأفعال إلى الله: ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، وإنّ طلبهم هذه الخطوات الضرورية الثلاثة من الله، دليل على قوة إيمانهم بالله، وقوة اعتمادهم وتوكلهم عليه. وهم في هذا الموقف الإيماني الجهادي العظيم، مقتدون بإخوانهم المجاهدين الذين قال الله تعالى عنهم:﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ [آل عمران: 146 - 148].
وقد علق الشيخ الشعراوي (رحمه الله) على قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، فقال: هذه هي الشحنة الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه، فهو ينادى قائلاً: ﴿رَبَّنَا﴾، إنه لم يقل: يا الله، بل يقول ﴿رَبَّنَا﴾؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء، وبينما مطلوب (الله) هو العبودية والتكاليف، ولذلك ينادي المؤمن ربه في الموقف الصعب (يا ربنا) أي: يا من خلقتَنا وتتولانا وتمدّنا بالأسباب. وقد قال المؤمنون مع طالوت ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾، وعندما نتأمل كلمة ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾، فإنها تفيدنا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر، ويكون أثرُ الصبر تثبيتَ الأقدام، ويأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني والقتال في قوله الحق.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 84-87.
- صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، ص (3/393-395).
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط17، 1412ه، ص (1/269).
- تفسير الشعراوي، ص (2/1056).