تدافع الناس في الحياة الدنيا من سنن الله تعالى في خلقه
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك
بقلم د. علي محمد الصلابي
الحلقة (17)
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]:
عقبت الآيات على طالوت وقومه من بني إسرائيل مع جالوت وجنده، وذلك بذكر سنة من سنن الله، وهي سنة المدافعة بين الناس التي ينتج عنها ذهاب الضعيف وبقاء القوي، ومعنى هذه الجملة القرآنية المعجزة، -كما ذكر محمد رشيد رضا-: لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح، لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم، حتى يكون لهم السلطان وحدهم فتفسد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين، وإحسانه إلى الناس أجمعين، أن أذن لأهل دينه الحق، المصلحين في الأرض بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين؛ فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان والله ناصرهم، ما نصروا الحق، وأرادوا الإصلاح في الأرض.
وقال الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- في قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: وقد دل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:
أولها: أن ذلك التنظيم الحكيم هو من فضل الله ورحمته، وإنعامه على خلقه، وليس ذلك بواجب عليه سبحانه؛ وذلك لأنه خلق الناس، وخلق معهم عقولا يعرفون بها خيرهم وشرهم، فإن ساروا في طريق الخير والفلاح فلهم ما قصدوا إليه، وإن ساروا في طريق الشر والفساد فإلى الهاوية يسيرون، وعليهم وبال أمرهم، وعاقبة عملهم إنما هو من فضله، وقد دلّ على ذلك الاستدراك بقوله تعالى: ﴿وَلَكِن اللَّهَ ذُو فَضْلٍ﴾ وصف ذلك بأنه فضلٌ من رب العالمين خالقِ الناس أجمعين.
الأمر الثاني: فضل الله سبحانه وتعالى الكثير، ووصفه سبحانه بأنه ذو فضل، وقد دل على كثرة الفضل التنكير في قوله تعالى: ﴿ذُو فَضْلٍ﴾ أي ذو فضل كثير، لا يدرك الناس قدره، ولا يعرف كنهه، ولا يحد بمقدار حتى يعرف ويعين بالتعريف.
الأمر الثالث: أن النعمة التي أنعم الله بها على خلقه من دفع الفساد يَنْعَم بها المؤمنون والمشركون، والأشرار والأبرار؛ لأن الفساد إذا عمَّ لا يسلم منه أحد، والخير إذا تحقق عمَّ الجميع، وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿عَلَى الْعَالَمينَ﴾ فلم يقل على المؤمنين أو المتقين، بل عم الخير على الناس أجمعين للإشارة إلى ذلك المعنى الجليل.
هذه قصة بني إسرائيل الذين غلبوا على أمرهم ثم بدلوا من الذلة عزة، وهي قصة تكشف عن سنن الاجتماع والحروب، وأمثل طرق الحكم.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 93-95.
- محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987م، ص (2/913).