أهم السنن في حياة الأمم والشعوب من قصة طالوت (عليه السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك
بقلم د. علي محمد الصلابي
الحلقة (18)
حاول الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- أن يتأمل في هذه القصة ويستنبط منها أهم السنن الإيمانية في حياة الأمم والمجتمعات والشعوب، وذكر منها:
(السُّنة الأولى) أن الأمم إذا اعتدي على استقلالها وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده، كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
(الثانية) أن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة استقلالها إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة، فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملّك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل، وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
(الثالثة) متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها ودفع ضيم الأعداء عنها؛ فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين.
(الرابعة) أن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجّح يقبله الجمهور من الأمة؛ لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم، وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم، وقد جعل الإسلام المرجّح لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحِلّ والعقد والمكانة في الأمة.
(الخامسة) أن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية؛ ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجّوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول.
(السادسة) أن الأمم في طور الجهل ترى أنَّ أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، كما عُلم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم.
(السابعة) أن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، فيما يأتي:
- الاستعداد الفطري للشخص: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾.
- السعة في العلم الذي يكون به التدبير: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾.
- بسطة الجسم المعبر بها عن صحته، وكمال قواه المستلزم ذلك صحة الفكر ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾.
- توفيق الله تعالى بإيجاد الأسباب له وهو المعبر عنه بقوله: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ﴾.
(الثامنة) هي ما أفاده قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ﴾ كما بيّنّاه معزّزًا بالشواهد من الكتاب العزيز، على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان. وأين المبصرون؟
(التاسعة) أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر؛ وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول.
(العاشرة) أن الفئة القليلة قد تغلب -بالصبر والثبات وطاعة القواد- الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد؛ لأن نصر الله مع الصابرين.
(الحادية عشرة) أن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجِلاد والقتال.
(الثانية عشرة) أن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى؛ فإن الدعاء هو آية الإيمان بالله والتصديق بلقائه.
(الثالثة عشرة) دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة، وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون: إن الحرب طبيعية في البشر؛ لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، ليس نصًّا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس، يقتضي المدافعة والمغالبة.
إن السنن الربانية ثابتة في الكون، وتقع على الإنسان في كل زمان ومكان، وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين تعلقاً وثيقاً، ولقد شاء الله رب العالمين أن يجري أمر هذا الدين -بل أمر هذا الكون- على السنن الجارية لا على السنن الخارقة، وذلك حتى لا يأتي جيل من أجيال المسلمين فيتقاعس ويقول: لقد نُصر الأولون بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة وانقطاع النبوات.
إنّ سنة التدافع مرتبطة بالتمكين، والحكم والسلطان ارتباطاً وثيقاً، فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفاً، ولا يمكن أن يدع الخير يعلو -مهما يسلك هذا الخير من طرق سليمة موادعة- فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الحظر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة.
فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وأعوانه، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظاً لاستقامة حال العيش واعتدالاً لميزان الحياة.
لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية في القرآن الكريم بصفة عامة، ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه:
الأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].
الثانية: قوله تعالى في سورة الحج: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
وإن الملاحظ هو أن آية البقرة تأتي بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل، المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله -تعالى الآية بقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، وعلى ذلك، فإن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعمّ الناس كلَّهم.
وتأتى آية الحج بعد إعلان الله تعالى أن يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم -سبحانه- بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله -تعالى- في دفع الناس بعضهم ببعض: "لتدرك أن سنة الله -تعالى- في تدمير الباطل بأن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله -تعالى- بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 95-102.
- محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، القاهرة، دار الفكر العربي، 1987م، ص (2/913).
- محمد قطب، واقعنا المعاصر، مؤسَّسة المدينة للصَّحافة، والطِّباعة، والنَّشر - جدَّة، ط2، 1408هـ - 1987م، ص414.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، ص (3/742).
- محمد السيد حمد يوسف، التَّمكين للأمَّة الإسلاميَّة في ضوء القرآن الكريم، دار السَّلام - مصر، ط1، 1418هـ - 1997م، ص218.
- فخر الدين الرازي، التفسير الكبير: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث، بيروت، لبنان، 415ه - 1995م، ص (3/514).