الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

تمام العبودية لله تعالى: داوود (عليه السلام)

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك

بقلم د. علي محمد الصلابي

الحلقة (20)

 

قال تعالى:﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّاب﴾:

أ- ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾:

يقول الله تعالى في ذكره لنبيه محمد ﷺ اصبر يا محمد على ما يقول مشركو قومك لك مما تكره قولهم لك، فإنا ممتحنوك بالمكاره، وقد امتحنا سائر رسلنا قبلك، ثم جاعلو العلو والرفعة والظفر لك على من كذَّبك ورفض اتباعك، كما هو الحال في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا قبلك، فمنهم عبدنا داوود، فأمر الله عز وجل محمداً -على عظمة قدره- بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداوود (عليه السلام)؛ وذلك تشريف عظيم، وإكرام لنبي الله داوود؛ حيث أمر الله أفضل الخلق محمداً بأن يقتدي به في مكارم الأخلاق، وقد أثنى عليه بالخصال الحميدة.

2- تمام عبوديته لله عز وجل:

إذ وصفه سبحانه بقوله: ﴿عَبْدَنَا﴾؛ فإن الوصف بالعبودية لله عز وجل مشعر بتحقيق تمام العبودية بالاجتهاد في الطاعة. وكان داوود (عليه السلام) من أعبد الناس، وقد أخبرنا عن صلاته وصيامه رسولُنا الكريم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله ﷺ: «أحبُّ الصِّيامِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ صيامُ داوودَ علَيهِ السَّلامُ، كانَ يَصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا، وأحبُّ الصَّلاةِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ صلاةُ داوودَ علَيهِ السَّلامُ ، كانَ يَنامُ نصفَ اللَّيلِ ، ويقومُ ثلُثَهُ ، ويَنامُ سُدُسَهُ، ولا يفرّ إذا لاقى».

ولهذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) مناسبة، وضّحها عبد الله بن عمرو نفسه في حديث آخر، نقدمها للقراء ليعرفوا دعوة النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو للاقتداء بداوود (عليه السلام) في صيامه وقيامه. وقد روى البخاريّ ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة. قال: فإما ذكرت للنبي ﷺ، وإما أرسل إليّ فأتيته. فقال لي: «أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ القُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟»

فقلت: بلى يا نبي الله! ولم أرد بذلك إلا الخير. قال: «فإنَّ بحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِن كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»، قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك. قال «إنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، قالَ: «فَصُمْ صَوْمَ دَاوُودَ نَبِيِّ اللهِ (ﷺ)، فإنَّه كانَ أَعْبَدَ النَّاسِ»، قالَ قُلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ، وَما صَوْمُ دَاوُودَ؟ قالَ: «كانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»، قال: «وَاقْرَأِ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْرٍ»، قال قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فَاقْرَأْهُ في كُلِّ عِشْرِينَ»، قال قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فَاقْرَأْهُ في كُلِّ عَشْرٍ»، قالَ قُلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ، إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِن ذلكَ، قالَ: «فَاقْرَأْهُ في كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ علَى ذلكَ، فإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا». قالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ. قالَ: وَقالَ لي النبيُّ ﷺ: «إنَّكَ لا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بكَ عُمْرٌ».

قال: قالَ: فَصِرْتُ إلى الذي قالَ لي النبيُّ ﷺ، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ. وفي هذا الحوار التربوي بين رسول الله ﷺ يصرح رسول الله بأن داوود كان أعبد الناس.

جـ- ﴿ذَا الْأَيْدِ﴾:

ذو القوة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته. ﴿ذَا الْأَيْدِ﴾؛ أي: القوة العظيمة على العبادة والطاعة في بدنه وقلبه، وقوته في العلم، والعمل على أداء الأمانة، والقيام بأعباء الدعوة، ومجانبة الضعف والوهن؛ وتلك قوة محمودة إذا كانت على الحق والخير ونصر دين الله.

لقد كان داوود (عليه السلام) قوياً في كل هذه الأمور.

د- ﴿إِنَّهُ أَوَّاب﴾:

أي: كثير الرجوع إلى الله في جميع الأمور، ومنيب إليه بالحب والطاعة، والخوف والرجاء، وكثرة التضرع والدعاء، ورجّاع إليه عندما يقع منه بعض الخلل والتقصير بالإقلاع عن الذنب، والتوبة النصوح.

مراجع الحلقة:

- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 111-114.

- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان، (23/136).

- هتون سامي عبد الرحمن فلمبان، الثناء في القرآن الكريم، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 2016م، ص 227-337.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022