سنة تكذيب المرسلين (عليهم السلام)
مختارات من موسوعة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين ..
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (29)
«يا ليتني فيها جَذَعاً! ليتني أكون حياً؛ إذ يخرجك قومك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أوَ مخرجيَّ هم؟!» قال: نعم؛ لم يأت رجل قطُّ بمثل ما جئت به إلا عُوديَ، وإن يدركْني يومك؛ أنصرْك نصراً مؤزراً» [البخاري (3) ومسلم (160)]، فقد بيَّن الحديثُ سنَّةً من سنن الأمم مع مَنْ يدعوهم إلى الله - عزَّ وجل - وهي التَّكذيب، والإخراج، كما قال تعالى عن قوم لوط: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾
[النمل: 56] .
وكما قال قوم شعيبٍ: ﴿قَالَ الْمَلأَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ [الأعراف: 88].
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنِا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ [إبراهيم: 13].
قوله: (وفتر الوحي):
تحدَّث علماء السِّيرة قديماً، وحديثاً عن فترة الوحي، فقال الحافظ ابن حجر: وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدَّةً من الزَّمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الرَّوع، وليحصل له التَّشَوُّف إلى العود.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاريِّ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدِّث عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشي؛ إذ سمعت صوتاً من السَّماء، فرفعت بصري، فإذا الْمَلَكُ الَّذي جاءني بحراء جالسٌ على كرسيٍّ بين السَّماء، والأرض، فَرُعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني! فأنزل الله تعالى: فَحَمِيَ ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ *وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾، وتتابع» [البخاري (4) ومسلم (161)] .
وقال صفيُّ الرَّحمن المباركفوري: «أمَّا مدَّة فترة الوحي؛ فروى ابن سعدٍ عن ابن عبَّاسٍ ما يفيد: أنَّها كانت أياماً، وهذا الذي يترجَّح؛ بل يتعيَّن بعد إدارة النظر في جميع الجوانب، وأمَّا ما اشتهر من أنَّها دامت طيلة ثلاث سنين، أو سنتين ونصف؛ فلا يصحُّ بحالٍ، وليس هذا موضع التفصيل في ردِّه. وقد بقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيباً محزوناً تعتريه الحيرة، والدَّهشة».
ولقد ذكر البخاريُّ في صحيحه: أنَّه صلى الله عليه وسلم حزن حزناً غدا منه مراراً كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلَّما أوفى بذروة جبل لكي يُلْقي منه نفسه؛ تَبَدَّى لَه جبريل، فقَال: يا محمد! إنَّك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقرُّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل؛ تبدَّى له جبريل، فقالَ له مثل ذلك [البخاري (6982) وابن حبان (33) والبيهقي في الدلائل (2/138)] .
مراجع الحلقة:
- السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2004، ص 106-107.
- الرَّحيق المختوم، صفيِّ الرَّحمن المباركفوري، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1996م، مؤسَّسة الرِّسالة - لبنان، ص 79 ، 80.