الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

داوود وسليمان في موكب الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (36)

 

عرض القرآن الكريم موكب الإيمان يقوده ذلك الرهط من الرسل من نوح إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يعرض السياق هذا الموكب ممتداً موصولاً، وبخاصة منذ إبراهيم وبنيه من النبيين، ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض، كما يلاحظ في مواضع أخرى؛ لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته، لا تسلسله التاريخي.

ومن جملة من ذُكر في هذا الموكب من الأنبياء والمرسلين: داوود وسليمان عليهما السلام.

أ- قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعام: 84].

ب- وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: 163].

وإن هذا السياق القرآني يتحدّث عن موكب واحد، يتراءى عبر التاريخ البشري الموصول، ورسالة واحدة، وبهدي واحد للإنذار والتبشير، وموكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من البشر: نوح وإبراهيم إسماعيل وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وعيسى، وأيوب، ويونس، وهارون، وسليمان، وداوود، وموسى، وغيرهم ممن قصّهم اللهُ على نبيه ﷺ في القرآن الكريم، وممن لم يقصص عليه، موكب من شتى الأقوام، والأجناس، وشتى البقاع والأرضين، في شتى الأزمان، لا يفرقهم نسب ولا جنس، ولا أرض، ولا وطن، ولا زمن، ولا بيئة، كلهم آت من ذلك المصدر الكريم، وكلهم يحمل ذلك النور الهادي، وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير، وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة إلى ذلك النور، سواء منهم من جاء لعشيرة، ومن جاء لقوم، ومن جاء لمدينة، ومن جاء لقطر، ثم من جاء للناس أجمعين محمد رسول الله ﷺ خاتم النبيين كلهم، تُلْقىَ الوحيُ من الله على رسوله فما جاء بشيء من عنده، أولئك الرسل –من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص– اقتضت عدالةُ الله ورحمتُه أن يبعث بهم إلى عباده يبشّرونهم بما أعدّه الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان، وينذرونهم ما أعدّه الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب؛ كل ذلك ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق. وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، ولكنه سبحانه وتعالى، رحمة منه بعباده، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم -أداة العقل- اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، يذكرونهم، ويبصرونهم، ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ عزيزاً: قادراً على أخذ العباد بما كسبوا. وحكيماً: يُدبّر الأمر كله بالحكمة، ويضع كل أمر في نصابه.

ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله -سبحانه- لو لم يرسل إليهم الرسلَ مبشرين ومنذرين. هذا ما احتشاد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات والشواهد على الخالق ووحدانيته، وتدبيره وتقديره وقدرته وعلمه.

ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينه وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس، ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج، ولكن الله -سبحانه- بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطلها، أو تفسدها، أو تطمسها، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون وحجيّة الفطرة، وحجية العقل، مالم يرسل إليهم الرسل، ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها، مما قد يرين عليها. وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة، هذه الأجهزة؛ فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي؛ وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع، أو تسقط حجتها وتستحق العقاب.

إنّ القرآن الكريم يثبت نبوة داوود وسليمان عليهما السلام، وخص الله تعالى سيدنا داوود (عليه السلام) في الآيات من سورة النساء بذكرٍ خاص: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ لمكانته (عليه السلام)، وإثبات نبوته بإتيانه الحكمة المفسرة بالنبوة، في قوله تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾، وذكر الله تعالى تفضيل سيدنا داوود (عليه السلام) على بعض النبيين إجمالاً: ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: 55]؛ وبتنكير (زبوراً) في الآية دلالة على عظمته وتشريفه وتأثيره في النفوس؛ فإنه قد ورد أن داوود (عليه السلام) كان إذا جلس يقرأ الزبور للوعظ والتذكير بآياته بكى واستبكى واجتمع الجن والإنس والطير والدواب والوحوش حوله.

 

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 185-189.

- في ظلال القرآن، سيد قطب، ص (2/805 - 806).

- البداية والنهاية، ابن كثير، ص (2/11).

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022