الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [سورة ص: 35]...

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...

بقلم د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (34)

قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [سورة ص: 35]...

1- ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾:

   هذا أدب الأنبياء والصالحين، من طلب المغفرة من الله، هضماً للنفس، وإظهاراً للذّلة والخشوع، وطلباً للترقي في المقامات. وفي الحديث: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة».

   والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه، فيترتب عليه أمر دنياه، كقول نوح في ما حكى الله عنه: ﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُوا۟ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارࣰا (10) یُرۡسِلِ ٱلسَّمَاۤءَ عَلَیۡكُم مِّدۡرَارࣰا (11) [نوح:  10- 11].

2- ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾:

 قال الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: وإردافه طلب المغفرة باستيهاب مُلك لا ينبغي لأحد من بعده، لأنه توقع من غضب الله أمرين:

- العقاب في الآخرة، وسلب النعمة في الدنيا، إذ قصّر في شكرها. وكان سليمان يومئذٍ في ملك عظيم، فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك، وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام، مثل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 136].

 وتنكير ﴿مُلْكًا للتعظيم. وارتقى سليمان في تدرج سؤال إلى أن وصف ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، أي: لا يتأتى لأحد من بعده، أي: لا يعطيه الله أحداً يبتغيه من بعده، فكنى بـ: ﴿لَا يَنْبَغِي عن معنى لا يعطى لأحد أي: لا تعطيه أحداً من بعدي.

وسأل الله ألا يقيم له منازعاً في ملكه، وأن يبقى له ذلك الملك إلى موته، فاستجاب الله له.

- وقد تضمّنتْ دعوتُه شيئين: هما أن يعطي ملكاً عظيماً وألا يعطي غيره مثله في عظمته. وقد حكى الله دعاء سليمان (عليه السلام)، وهو سرٌّ بينه وبين ربه إشعاراً بأنه ألهمه إيّاه، وأنه استجاب له دعوته تعريفاً برضاه عنه، وبأنه جعل استجابته مكرمة توبته. ومعنى ذلك أنه لا يأتي مَلك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان، فإن ملكه عمَّ التصرف في الجن وتسخير الريح والطير؛ ومجموع ذلك لم يحصل لأحد من بعده.

وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ البَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فأمْكَنَنِي اللَّهُ منه فأخَذْتُهُ، فأرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ علَى سَارِيَةٍ مِن سَوَارِي المَسْجِدِ حتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِن بَعْدِي، فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا».

إن سليمان (عليه السلام) لم يطلب الملك للظلم أو البغي، وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله تعالى في الأرض، وإقامة حدوده، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته جل في علاه. وليكون معجزة له في نبوته ورسالته، ويُسخِّره في الدعوة إلى الله تعالى، وإشعار الناس بالدخول في دين الله عز وجل، وليتخذه وسيلة لذكر الله وشكره وحسن عبادته، فالملك الخاص الذي يريده ليس غاية مقصودة، ولكنه وسيلة لتحقيق تلك الغايات الإيمانية العظيمة. ولذلك استجاب الله له، ومنحه ما طلب، وخصه بملك لم يهبه لغيره.

3- ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾:

ورد اسم الله تعالى (الْوَهَّابُ) ثلاث مرات في القرآن الكريم، وذلك في قوله عز وجل: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8]، وقوله سبحانه: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ [ص: 9]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35].

قال الخطابي رحمه الله: ﴿الْوَهَّابُ: هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد من غير استثابة... فكل ما وهب شيئاً من عرض الدنيا لصاحبه فهو واهب، ولا يستحق أن يسمى وهاباً إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا، فكثرت نوائله، ودامت، والمخلوقون إنما يملكون أن يهبوا مالا ونوالا في حال دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاء السقيم، ولا والداً للعقيم، ولا هدى لضال، ولا عافية لذي بلاء؛ والله الوهاب سبحانه يملك جميع ذلك، وسع الخلق جوده، فدامت مواهبه، وكثرت مننه وعوائده.

إنّ سليمان (عليه السلام) عاش مع الله، وفهم أسماءه الحسنى، وآمن بصفاته العلا، ونراه يدعو الله باسمه الوهاب، فقد كان مستغرقاً في هبات الله منذ طفولته، ورأى ذلك في مُلك أبيه، فأحب الله عز وجل، وأخلص العبادة له، وطرق أبوابه، التي لا تعد ولا تحصى بجميع أصنافها، وأنواعها، فهو سبحانه واهب الحياة، وواهب القوة، وواهب الرزق. وقد حافظ سليمان (عليه السلام) على نعم الله، وهباته، ولا سيما هبة الهداية إلى الحق والإيمان، وسؤال الله عز وجل والتضرع بين يديه بالثبات على الهداية، وعدم الزيغ عنها. وكان سليمان (عليه السلام) يسأل الله عز وجل، بهذا الاسم الكريم كل ما يحتاجه العبد من خيرَيِ الدنيا والآخرة؛ لأنه لا واهب إلا الله.

مراجع الحلقة:

  • الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 177-181.

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022