فتنة سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم...
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك ...
بقلم: د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (32)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34]:
- ﴿فَتَنَّا﴾: معناه: بلونا واختبرنا، وامتحنا. والفتنة في ذاتها ليست مكروهة، وإنما المكروه أن تخفق فيها، وتفشل في خوضها. وقد فتن الله سليمان (عليه السلام) كما فتن من قبله أباه داوود عليهم السلام في مسألة المحراب.
- ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾:
الكرسي هو العرش الذي يجلس عليه الملك. ﴿جَسَداً﴾: الجسد هو قالب الكائن الحي، ويقال لهذا القالب: (جسد) إذا كان خالياً من الروح.
- ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾: يعني رجع إلى ما كان عليه قبل التجربة التي مرّ بها.
وقد تحدث الكثير من العلماء عن شرح هذه الآية الكريمة وردوا الروايات المكذوبة في حق سليمان (عليه السلام)، بعدل وإنصاف. ومن هذه الدراسات المهمة:
- "الإسرائيليات والموضوعات في قصة سيدنا سليمان (عليه السلام)، كائنات محمود عدوان".
- "تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِۦ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾، للعلامة عبد الرحمن المعلمي".
- "فتنة سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم، همام حسين يوسف سلوم".
وهذه من أهمّ المراجع التي اعتمدت عليها بعد الله في مناقشة الإسرائيليات، ومن أراد التوسع فليرجع إليها.
1- سبب هذه الفتنة:
كَثُرت الأقوال في سبب هذه الفتنة، وحكيت في كتب التفسير أقوال لا تتوافق
مع عصمة الأنبياء، ولا يمكن أن تكون قد حصلت من سليمان (عليه السلام). ومن هذه الأقوال:
- قال كثير من المفسرين: إن سليمان تزوج بامرأة من بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره ولم يعلم بذلك فامتُحن بسبب غفلته في ذلك.
- وقيل إنه تزوج بامرأة مصرية اسمها جرادة، وكان يحبها حبّاً شديداً، فاختصم إليه فريقان، أحدهما من أهل جرادة، فأحب أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم في الحق.
- وقيل إنه احتجب على الناس ثلاثة أيام لا يقضى بين أحد.
- وقيل إنه تزوج جرادة وهي مشركة، لأنه عرض عليها الإسلام فقالت اقتلني ولا أسلم.
- وقيل: لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه.
- وقيل: إنه قارب بعض نساءه في شيء من حيض وغيره.
- وقيل: إنه أمر ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوج من غيرهم.
وكل هذه الأقوال مردودة؛ إذ ليس فيها دليل موثوق به، وإنَّ كثيراً منها يتعارض مع عصمة الأنبياء والمكانة السامية التي اختصّهم الله بها.
2- أقوال العلماء في هذه الفتنة:
أ- قال صلاح الدين الخالدي (رحمه الله): ننبه ونحذّر أولاً من الإسرائيليات المكذوبة الباطلة التي تحدثت طويلاً عن فتنة سليمان، وعن الجسد الملقى على كرسيّه، فهي تتهم النبي سليمان (عليه السلام) تُهَمًا باطلة فاجرة.
وخلاصتها: أن سليمان (عليه السلام) وافق امرأته الكافرة على الكفر بالله، ووضع لهما صنماً في قصره، لتعبده من دون الله، فعاقبه الله على ذلك، وكان يحكم الجن والشياطين بخاتمه السحري، فأذن الله للشيطان المارد أن... يتزيّا بزيّه، فأخذ الخاتم منه، واستلم الحكم من بعده، وكأنه عمل (انقلاباً عسكرياً عليه)، وبقي على هذا عدة أسابيع مفتوناً منزوعاً حكمه، ثم عاد له حكمه بعد أن استخرج الخاتم من بطن سمكة، ثم وضع المارد في صندوق وألقاه في قعر البحر.
هذه الإسرائيليات مكذوبة باطلة واردة في أسفار العهد القديم المحرفة، وقد استهوت هذه الإسرائيليات بعضَ المفسرين والمؤرخين من المسلمين –مع الأسف الشديد- فأوردوها في كتبهم، وفسروا بها كلام الله تعالى. ونحن لا نجيز تفسير كتاب الله بهذه الأكاذيب والافتراءات، ونقرّر وجوب تبرئة سليمان (عليه السلام) منها.
ب- قال الشنقيطي (رحمه الله): وما روي عن السلف من جملة تلك الروايات بأن الشيطان أخذ خاتم سليمان وجلس على كرسيه، وطرد سليمان... إلى آخره، يوضح بطلانه، قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42].
واعترف الشيطان بذلك في قوله تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 40].
جـ- قال ابن كثير بعدما ذكر قصة رويت عن ابن عباس عند هذه الآية: الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس -إن صح عنه- من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان (عليه السلام)، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء؛ فإن المشهور أن ذلك الجنّي لم يسلط على نساء سليمان، بل عصمهن الله تعالى منه تشريفاً وتكريماً لنبيه ﷺ، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف، كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب. والله أعلم بالصواب.
د- قال النسفي (رحمه الله): وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان، وعبادة الوثن في بيت سليمان (عليه السلام) فمن أباطيل اليهود.
ه- قال القاضي عياض (رحمه الله): ولا يصح ما نقله الإخباريون من تشبّه الشيطان به، وتسلطه على محلّه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه؛ لأن الشياطين لا سلطان لها على مثل هذا، وقد عُصم الأنبياء من مثله.
و- قال الشيخ عثمان الخميس: الكلام الصحيح في فتنة سليمان، ما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله ﷺ قال: "قال سُلَيْمانُ بنُ داوُدَ عليهما السَّلامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ علَى مِئَةِ امْرَأَةٍ، أوْ تِسْعٍ وتِسْعِينَ، كُلُّهُنَّ يَأْتي بفارِسٍ يُجاهِدُ في سَبيلِ اللَّهِ، فقالَ له صاحِبُهُ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ منهنَّ إلَّا امْرَأَةٌ واحِدَةٌ، جاءَتْ بشِقِّ رَجُلٍ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، لَجاهَدُوا في سَبيلِ اللَّهِ فُرْسانًا أجْمَعُون" وهذا الخبر الصحيح، وبأن الذي ألقي على كرسي سليمان هو هذا الصبي الذي هو نصف آدمي. ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾: أي رجع إلى الله عز وجل، لأنه نسي أن يقول إن شاء الله.
ز- وقال الأستاذ همام حسن يوسف سلّوم: وخلاصة القول في هذا الأمر: أن الفتنة هي نسيان قول سليمان (إن شاء الله)، وعدم تحقق رغبته في إنجاب مائة فارس يجاهدون في سبيل الله، وابتلاؤه بابن مشوّه ناقص الخلق نزل من بطن أمه ميتاً، ويبدو أنه ولد ميتاً، وحملوه ووضعوه على كرسي سليمان ليرى ما وضعت امرأته، وعرف سليمان أنه امتحان من الله وابتلاء، فأناب إلى الله، ورضي بقدره، واستسلم لقضائه، وذكر الله واستغفره ودعاه وتضرع إليه؛ وبذلك نجح في الامتحان واستفاد من الابتلاء.
وهذا التأويل هو الذي نراه منسجماً مع النص القرآني، ولا ينكره العقل، ويليق بمقام النبوة، وبالتالي نراه الراجح في المسألة. والله أعلم. وهذا القول اختاره جمع من المحققين من العلماء المفسرين، قدامى ومعاصرين، منهم: البيضاوي، والآلوسي. قال الزمخشري: لا بأس به، واعتبره الرازي وجهاً لأهل التحقيق، واختاره أيضاً الخازن، وأبو حيان، واعتبره ابن عاشور أظهر الأقوال، وإن لم يرتضه.
واختاره من المعاصرين: الزحيلي، والصابوني، وعبد الرحمن حبنّكة الميداني، والشنقيطي، والخالدي، والجزائري، وآخرون.
وذهب بعض العلماء إلى تأويل آخر للفتنة ينزِّه سليمان (عليه السلام) عن أباطيل الإسرائيليات، فقالوا: إن الفتنة هي فتنة سليمان في جسده حيث ابتلى بمرض شديد نحل منه وضعف حتى صار من شدة المرض كأن جسده ملقى على الكرسي. ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾: أي رجع إلى حالة الصحة. واستدلوا لهذا القول بأنه شاع في اللغة وصف الضعيف بأنه لحم على عظم وجسد بلا روح. واختار هذا القول: الشيخ المراغي رحمه الله. وأميل إلى قول الخالدي، والشنقيطي والجزائري، والزحيلي وغيرهم، والله أعلم.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 169-177.
- تفسير عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، ص121.
- تفسير الشعراوي (11/12934).
- سليمان (عليه السلام) في القرآن والسنة، همام هسن يوسف، ص213 - 214.
- أضواء البيان (6/347).
- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (7/69).
- تفسير النسفي (4/42).
- الشفا، القاضي عياض، (2/381).
- فبهداهم اقتده، عثمان الخميس، ص315.
- تفسير البيضاوي (5/46).
- روح المعاني، الآلوسي، (23/46).
- الكشّاف، الزمخشري، (4/90).
- التفسير الكبير، الرازي، (9/392).
- البحر المحيط، أبو حيّان، (7/379).
- التحرير والتنوير، ابن عاشور، (9/510).
- التفسير المنير، الزحيلي، (23/201).
- صفوة التفاسير، علي الصابوني، (3/54).
- العقيدة الإسلامية وأساسها، عبد الرحمن حبنّكة الميداني، ص417.
- أضواء البيان، الشنقيطي، (2/373).
- تفسير المراغي (23/120 - 121).