شرف العلم ومكانته، وما وهبه الله تعالى لداوود وسليمان (عليهما السلام) من العلم..
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي ...
الحلقة (50)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾:
وفي الآية دليل على شرف العلم وأناقة محله، وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم، وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباد الله، كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11].
وما سماهم رسول الله ﷺ ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة. وجاءت هذه الآية لتبيِّن لنا سر امتنان الله بذكر نعمة العلم على داوود وسليمان دون سائر النعم، فنعم الله الظاهرة على داوود كثيرة، وأما نبي الله سليمان (عليه السلام) فقد رزقه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
قال الإمام السبكي: فإن الله تعالى آتى داوود وسليمان -عليهما السلام- من نعم الدنيا والآخرة ما لم ينحصر. ولم يذكر في ذلك في صدر هذه الآية إلا العلم؛ ليبين أن الأصل في النعم كلها، فقد كان داوود من أعبد البشر كما صح في صحيح مسلم. وذلك من آثار علمه، وجمع الله له ولابنه سليمان مالم يجمعه لأحد، وجعل العلم أصلاً لذلك كله.
وقال ابن باديس (رحمه الله): قد ابتدأ الحديث عن الملك العظيم بذكر العلم، وقدمت النعمة به على سائر النعم، تنويها بشأن العلم، وتنبيها على أنه هو الأصل الذي تبنى عليه سعادة الدينا والآخرة، وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا، وأن الممالك إنما تبنى عليه وتشاد، وأن الملك إنما ينظم به ويساس، وأن كل ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار، وأنه هو سياج المملكة ودرعها، وهو سلاحها الحقيقي، وبه دفاعها، وأن كل مملكة لم تحتم به فهي عرضة للانقراض والانقضاض.
قال السعدي (رحمه الله): ولا شك أن المؤمنين أربع درجات: الصالحون، ثم فوقهم الشهداء، ثم فوقهم الصديقون ثم فوقهم الأنبياء، وداوود وسليمان من خواص الرسل، وإن كانوا دون درجة أولي العزم [نوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، وخاتم النبيين والمرسلين محمد، عليهم الصلاة والسلام]، لكنهم من جملة الرسل الفضلاء الكرام الذين نوه الله بذكرهم ومدحهم في كتابه مدحًا عظيمًا ؛ فحمدوا الله على بلوغ هذه المنزلة، وهذا عنوان سعادة العبد: أن يكون شاكراً لله على نعمه الدينية والدنيوية، وأن يرى جميع النعم من ربه، فلا يفخر بها ولا يعجب بها، بل يرى أنها تستحق منه شكرا كثيراً.
وقال الرازي: وأما قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15] ففيها أبحاث:
أحدها: أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علما، أو من لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير.
وثانيها: في الآية دليل على علو مرتبة العلم؛ لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما، فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم.
وثالثها: أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل؛ وذلك يدل على حسن التواضع.
ورابعها: أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم، ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين، فيستحيل أن يكون ذلك سببا لفضيلتهم على المؤمنين؛ فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جليا بحيث يصير المرء مستغرقا فيه، بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان، ولا ساعة من الساعات.
إن الحمد أفضل ما نشكر به النعم، وأن نبي الله داوود ونبي الله سليمان حمدا الله على نعمة التفضيل على كثير من المؤمنين، وقد جاء في السنة ما يدل عليه؛ فقد قال رسول الله ﷺ «ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال الحمدُ للهِ إلا كان الذي أعطاهُ أفضلَ مما أخذ».
ومن سعادة العبد شكر النعم وعدم الفخر والعجب بها، فقد أخبر الله عن نبييه الكريمين داوود وسليمان عليهما السلام بأنهما حمدا الله على تفضيله لهما على كثير من المؤمنين، وهذا منهما شكر لنعمه عليها، واعتراف منهما بمحض فضل الله. وقد أمر الله بشكره في كتابه، فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].
وقال تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
وقال النبي ﷺ: «من لم يشكرِ النَّاسَ لم يشكرِ اللَّهَ».
وقال السعدي: في تفسير هذه الآية: وهذا عنوان سعادة العبد أن يكون شاكراً لله على نعمه الدينية والدنيوية، وأن يرى جميع النعم من ربه، فلا يفخر بها، ولا يعجب بها، بل يرى أنها تستحق شكراً كثيراً.
ونلمس التواضع في حمد النبيَيْن الكريمين، فحينما جاءهما العلم قالا: الحمد لله، وهذا الشكر للنعمة تجاه المنعم يشعر بمصدر النعمة الحقيقي، وأنه أهل للثناء والحمد. وفي قوله: ﴿فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: أي أن هناك من الناس من هو أفضل منا، وهذا تواضع الأنبياء، والعلماء، فلم يقولا: (فضلنا على عباده المؤمنين)، وإنما قالا: فضلنا على كثير من عباده المؤمنين.
- وفي قوله: ﴿عُلِّمْنَا﴾ جاءت بالمبني للمجهول، وهي تفيد أن هناك من علمه وهداه، فلم ينسب هذا العلم لكسبهم، ومجهودهم وذكائهم، بل لمن علمهم وهو ربهم. وقال الدكتور محمد راتب النابلسي، في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾: وكلمة ﴿عِلْمًا﴾ جاءت نكرة، فلم يقل: (ولقد آتينا داوود وسليمان العلم)؛ لأن (العلم) -إذا كان معرفة هنا- فقد يشير على علم معين، وأما التنكير عن علماء البلاغة، فيفيد التعظيم، ويفيد التعميم. فجاءت كلمة ﴿عِلْمًا﴾ مطلقة عامة، ومعنى ذلك أن العلم على إطلاقه ثمين؛ لقول الله عز وجل: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9].
والعلم نور يكشف لك الطريق، فيكشف لك الحلال من الحرام، ويكشف لك الحق من الباطل، ويكشف لك الخير من الشر، ويكشف لك النافع من الضار، ويكشف لك الثمين من البخس، ويكشف لك النفيس من الخسيس. والعلم هو القيمة المرجحة التي اعتمدها القرآن الكريم، فالشيء الذي يرفعك هو العلم، والشيء الذي يخفضك هو الجهل، وأي شيء آخر عرض زائل يأتي، ويذهب، ولا قيمة له، لا يرفع صاحبه، ولا يخفضه، قد يكون الإنسان عند الله في أعلى عليين وهو فقير، أو مريض، أو نسبه غير معروف، أو غير جميل الصورة. ولكن يبقى العلم وحده هو الذي يرفعك عند الله في الدنيا والآخرة.
لا يَسْتَوِي الَّذِينَ لَهم عَلِمٌ فَهم يُدْرِكُونَ حَقائِقَ الأشْياءِ عَلى ما هي عَلَيْهِ وتَجْرِي أعْمالُهم عَلى حَسْبِ عِلْمِهِمْ، مَعَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَلا يُدْرِكُونَ الأشْياءَ عَلى ما هي عَلَيْهِ بَلْ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الحَقائِقُ وتَجْرِي أعْمالُهم عَلى غَيْرِ انْتِظامٍ، كَحالِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا الحِجارَةَ آلِهَةً ووَضَعُوا الكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْر.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 225-231.
- سلطان العلم في سورة النمل، د. نبيل محمد، ص15.
- فتاوى السبكي، لأبي الحسن تقي الدين السبكي، (1/73).
- تفسير ابن باديس، ص254.
- تفسير السعدي، ص801.
- التفسير الكبير: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، (24/186 - 187).
- فوائد قصص نبي الله سليمان، عبد الفتاح محمود، ص49.
- وقفات في حياة الأنبياء، خالد عبد العليم، ص248.
- تفسير النابلسي (8/475).
- تفسير التحرير والتنوير، لابن عاشور، (آية 9 /سورة الزمر).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي