المخلوقات التي سخرها الله تعالى لسليمان (عليه السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (53)
قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾:
فهذا هو موكب سليمان محشود محشور، يتألف من الجن والإنس والطير. والإنس معروفون. أما الجن فهم خلق لا نعرف عنهم إلا ما قصه الله علينا من أمرهم في القرآن، وهو أنه خلقهم من مارج من نار، أي من لهيب متموج من الناس، وأنهم يرون البشرَ والبشرُ لا يرونهم: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27].
[الكلام عن إبليس أو الشيطان، وإبليس من الجن] وأنهم قادرون على الوسوسة في صدور الناس بالشر عادة والإيحاء لهم بالمعصية -ولا ندري كيف- وأن منهم طائفة آمنت برسول الله ﷺ ولم يرهم هو أو يعرف منهم إيمانهم ولكن أخبره الله بذلك إخبارا: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ ونعرف أن الله سخر طائفة منهم لسليمان يبنون له المحاريب والتماثيل والجفان الكبيرة للطعام ويغوصون له في البحر، ويأتمرون بأمره بإذن الله، ومنهم هؤلاء الذين يظهرون هنا في موكبه مع إخوانهم من الإنس والطير. ونقول: إن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير، كما سخر له طائفة من الإنس، وكما أنه لم يكن كل أهل الأرض من الإنس جنداً لسليمان -إذ أن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات -على قول بعض المؤرخين- فكذلك لم يكن جميع الجن ولا جميع الطير مسخرين له، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء.
ونستند في مسألة الجن بأن إبليس وذريته من الجن، كما قال القرآن: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50].
وقال في سورة الناس: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾ [الناس: 5 - 6]، وهؤلاء كانوا يزالون الإغواء. والشر والوسوسة للبشر في عهد سليمان، وما كانوا ليزاولوا هذا وهم مسخرون له مقتدون بأمره وهو نبي يدعو إلى الهدى. فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له.
ونستند في مسألة الطير إلى أن سليمان (عليه السلام) حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد. ولو كانت جميع الطيور مسخرة له، ومحشورة في موكبه، ومنها جميع الهداهد، ما استطاع أن يتبين غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد فضلا على بلايين الطير. ولما قال: ﴿مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾. فهو إذن هدهد خاص بشخصه وذاته، وقد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحددة العدد من جنسه. ويعين على هذا ما ظهر من أن ذلك الهدهد موهوب إدراكاً خاصاً ليس من نوع إدراك الهداهد ولا الطير بصفة عامة. ولا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان، لا لجميع الهداهد وجميع الطيور؛ فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء والأتقياء من الناس!
حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، وهو موكب عظيم، وحشد كبير، يجمع أوله على آخره. ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾: حتى لا يتفرقوا وتشيع فيهم الفوضى، فهو حشد عسكري منظم، ففيها إشارة إلى الحشد والتنظيم.
أ- قال عبد الحميد بن باديس (رحمه الله): تفيد الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان، فقد كان الجنود يسرحون في الخدمة ويجمعون عند الحاجة، وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة، وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة، وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم، وكان النظام محكماً لضبط تلك الكثرة، ومنها الاضطراب والاختلال والفوضى، وتعرض علينا الآية هذه الصورة التاريخية والواقعية تعليماً لنا وتربية على الجندية المضبوطة المنظمة. ولا شك أن الخلفاء الأولين قد عملوا على ذلك في تنظيم جيوشهم، إن مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا، فسرعان ما تحوّلوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفاً عندهم في الجاهلية.
وبقيت الآية على الدهر مذكرة بآيات النظام أساس كل مجمع واجتماع، وأن القوة والكثرة وحدها لا تغنيان بدون نظام، وأن النظام لا بد له من رجال أكْفَاء يقومون ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.
ب- قال صلاح الدين الخالدي -رحمه الله تعالى-: كان جيشه مكوناً من فِرق متناسقة. وأخبرنا الله عن ثلاث من هذه الفِرق:
فرقة الإنس، وفرقة الجن، وفرقة الطير، وكان الجنود من هذه الفِرق يسيرون بنظام دقيق محكم، وأشار إلى هذا التنظيم قوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾.
قال ابن كثير: أي: وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير يعني: ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس، وكانوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم [يكونون] في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حَرًّا أظلته منه بأجنحتها.
وقوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ أي: يكف أولهم على آخرهم؛ لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. وقال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة، يردون أولاها على أخراها، لئلا يتقدموا في المسير، كما يفعل الملوك اليوم.
جـ- قال الدكتور محمد رائق رأفت المصري: إن العسكرية في دولة سليمان تشكل منظومة إدارية هائلة يجدر بنا ونحن نتكلم عن سياسات الحكم وطرائقه أن نقف أمامها ونتأملها، وننعم فيها الفكر والنظر، إدراكاً منا لأهمية الجانب الحربي الجهادي في حياة الدولة المسلمة، فلنقف مع الآيات نستشف منها الفوائد والدروس والإشارات. يقول الله جل شأنه: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ تأمل في قوله: ﴿جُنُودُهُ﴾ مضافاً إلى ضمير المفرد الغائب العائد على سليمان؛ ليدلنا على أن هناك جيشاً نظامياً ينتمي إلى هذه الدولة، يوجد عند الطلب، ويقوم باستعراضات عسكرية منظمة مرتبة، كما تشير الآية.
ثم إن هذا الجيش الضخم من الجن والإنس والطير هو جيش في غاية الترتيب والتنظيم، على الرغم من عدده الهائل وأجناسه المختلفة. انتبه إلى قوله سبحانه: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾.
وهذا يوحي أن هذا الجيش مقسم إلى كتائبَ منفصلةٍ، على رأس كل كتيبة منها رئيس أو عريف أو أمير أو ضابط صف، يقوم على توزيع أفراد كتيبته، وهذا يشبه في عصرنا ما يسمى بنظام شرطة الجيش.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 237-242.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2635-2636).
- تفسير ابن باديس، ص260.
- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، (3/516).
- شخصية الحاكم في ضوء القصص القرآني، محمد رائف، دار الفاروق للنشر والتوزيع، ط1، 2010م، ص177.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: