سليمان (عليه السلام) والنمل
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (55)
قال تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾:
أدرك سليمان (عليه السلام) ما قالت النملة، وانشرح صدره بإدراك ما قالت، وبمضمون ما قالت، وهش له كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه وهو لا يضمر أذاه. وانشرح صدره، لإدراكه، فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس، لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز، وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك وأن يفهم عنها.
أ- ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾:
والتبسم: هو أول الضحك وابتداؤه من غير صوت جاء في المعجم الوسيط: بسم يبسم بسماً: انفرجت شفتاه عن ثناياه ضاحكاً بدون صوت، وهو أخف الضحك وأحسنه فهو باسم وبسّام. وكما أن الضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي، فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة.
لقد سر (عليه السلام) لكلام النملة، وانفرجت شفتاه ضاحكاً متأثراً، ومر تأثره من كلامها بمرحلتين:
الأولى: مرحلة التبسم، حيث انفرجت شفتاه متأثرة مستحسناً وكان هذا بدون صوت.
الثانية: مرحلة الضحك حيث زاد فرحه وسروره وانبساطه، وانشراحه، فلم يصل حد القهقهة، ولم يخرجه عن وقاره. وبدهيّ بأن هاتين المرحلتين متداخلتان، ولا يفصلهما إلا جزء يسير من الوقت.
ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب، كما يكون للسرور وللفرح، أتى بقوله: ﴿ضَاحِكًا﴾ وهي حال، وذلك لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبا، وإنما فرحاً وسروراً.
ب- ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾:
وسرعان ما هزت سليمان (عليه السلام) هذه المشاهدة، وردت قلبه إلى ربه الذي أنعم عليه بنعمة المعرفة الخارقة، وفتح بينه وبين تلك العوالم المحجوبة والمعزولة من خلقه، واتجه إلى ربه في إنابة يتوسل إليه.
- ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ﴾:
- ﴿رَبِّ﴾: بهذا النداء القريب المباشر، المتصل.
- ﴿أَوْزِعْنِي﴾: اجمعني كلي، اجمع جوارحي ومشاعري ولساني وجناني وخواطري، وخلجاتي، كلماتي وعباراتي، وأعمالي وتوجهاتي، اجمعني كلي، اجمع طاقاتي كلها، أولها على آخرها، وآخرها على أولها، وهو المدلول اللغوي لكلمة أوزعني. لتكون كلها في شكر نعمتك عليّ، وعلى والديّ، وهذا التعبير بنعمة الله التي مست قلب سليمان (عليه السلام) في تلك اللحظة، ويصوّر نوع تأثّره وقوة توجهه وارتعاشة وجدانه، وهو يستشعر فضل الله الجزيل.
ويظهر بر الوالدين في دعاء سليمان (عليه السلام) لربه فلم ينسى فضل والديه عليه بعد الله في كونهما سبب في تربيته تربية حسنة وتوجهه الوجهة الصالحة، فحب الإنسان لوالديه والدعاء لهما من الأمور التي تؤدي إلى نشوء مجتمع مسلم متماسك ومترابط.
- ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾؛ فالعمل الصالح هو كذلك فضل من الله يوفق إليه من يشكر نعمته، وسليمان الشاكر الذي يستعين ربه ليعينه... على شكر نعمته، يستعين ربه كذلك ليوفقه إلى عمل صالح يرضاه، وهو يشعر أن العمل الصالح توفيق ونعمة أخرى من الله.
ج- ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾:
أدخلني برحمتك.. فهو يعلم أن الدخول في عباد الله الصالحين، رحمة من الله تتدارك العبد فتوفقه إلى العمل الصالح، فيكون في عداد الصالحين، يعلم هذا فيتضرع إلى ربه أن يكون من المرحومين الموفقين السالكين في هذا الرعيل، يتضرع إلى ربه وهو النبي الذي أنعم الله عليه وسخر له الجن والإنس والطير، غير آمن مكر الله حتى بعد أن اصطفاه، خائفاً أن يقصر به عمله، وأن يقصر به شكره.
وقد ورد عن رسول الله ﷺ الطمع في رحمة الله فقد قال ﷺ: «لن يُنجِيَ أحدًا منكم عملُه»، قالوا ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ قال: «ولا أنا إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ منه برحمةٍ فسدِّدوا وقارِبوا واغدُوا وروحُوا وشيءٌ من الدُّلْجَةِ. والقصدَ القصدَ تبلُغوا».
وقد لاحظنا أن سليمان (عليه السلام) كان متشوقاً إلى رضا الله ورحمته مع خشية وتقوى لله عز وجل، وخصوصاً في اللحظات التي تتجلى فيها نعائم الله عليه، فالنملة تشهد بعدله، وسليمان يدرك عنها ما تقول بتعليم الله له وفضله عليه.
ونقف هنا أمام خارقتين لا خارقة واحدة، خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة، وخارقة إدراك النملة أن هذا سليمان وجنوده، فأما الأولى، فهي مما علّمه الله لسليمان. وسليمان إنسان ونبي، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة، فقد تُدرِك النملةُ أن هؤلاء خلقٌ أكبر، وأنهم يحطّمون النمل إذا داسوه، وقد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع الله فيه من القوى الحافظة للحياة، أم أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان وجنوده، فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج عن المألوف، وتحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 246-250.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، ص (5/2637-2636).
- المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، القاهرة، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، ط5، 2011م، (1/59).
- روح المعاني (19/179)؛ ولغة الجوارح ودلالاتها في القرآن الكريم، د. علي الجواري، ص262؛ والقيم الإدارية المستخلصة من قصة النبي سليمان، ص65 - 66؛ وأخلاق الأنبياء، محمد الدرويش، ص336.
- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، (3/521).
- البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الفكر، ط1، 1430ه، (7/62).
- منهجيات الإصلاح والتغيير في سورتي النمل والقصص، ص90.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: