الإثنين

1446-06-22

|

2024-12-23

القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي وجهوده في التوحيد والتحرير

"مقدِّمات معركة حطين (21)"

د. علي محمد الصلابي

كانت معركة حطين من المعارك الحاسمة والفاصلة في التاريخ الإسلامي، إذ شكلت بداية النهاية الكليّة للوجود الصليبي في بلاد الشام، ولم تحدث هذه المعركة بشكل مفاجئ وغير متوقع، فقد كانت هناك مجموعة من الأحداث والتطورات التي مهدت لحدوثها، ومنها المعاهدات وبعض المناوشات والمعارك الجانبية التي حدثت بين المسلمين والصليبيين، بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية في الممالك الصليبية.

وفاة بلدوين الخامس وتأثيرها على أوضاع الصَّليبيين:

توفي الملك بلدوين الخامس في شهر جمادى الآخرة عام 582 هـ/شهر آب عام 1186م، بعد شهور من توليته، فبرزت من جديد مشاكل الصَّليبيين الدَّاخلية؛ إذ كانت وفاته إيذاناً بصراع حادٍّ بين الأمراء حول الفوز بعرش المملكة، وقد بدأت أولى حلقات الصراع بين ريموند الثالث وجوسلين دي كورتناي اللذين كانا على مقربة من الملك عند وفاته في عكَّا، وظلَّ المعارضون لوصاية ريموند الثَّالث في حبك المؤامرات؛ حتى نجحوا أخيراً في سحب الوصاية منه، وتحويل المُلك من الطفل إلى أمِّه سيبيلا، وأوكلوا إليها اختيار الملك الجديد؛ لأنَّها لا تستطيع أن تحكم كامرأة، فسلَّمت سيبيلا تاج الملك إلى زوجها جاي لوزينان وفق ما أراده المعارضون لريموند الثَّالث (تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام، محمد سهيل طقوس، ص140).

استفادة صلاح الدين من الظروف التي تمرُّ بها مملكة بيت المَقْدِس:

في الوقت الذي كان صلاح الدين يعمل جاهداً لتكوين قوَّة عسكريةٍ مزوَّدةٍ بالمؤن والعتاد، واستعداداً لخوض معركة فاصلة ضدَّ الصليبيين؛ كان يتجنب الاشتباك مع الصليبيين في أكثر من جبهةٍ واحدةٍ، حتى لا يتيح لعدوَّه تعبئة قواه وتوحيد صفوفه رداً على تعبئة القوَّات الإسلامية، فأرسل في سنة 583 هـ/1187 م إلى أهل حلب يأمرهم بمصالحة بوهيمند الثالث أمير أنطاكية ليتفرَّغ لجهاد الصليبيين من جانب واحد، كما عمد صلاح الدين الذي عرف بمهارته العسكرية أيضاً إلى استغلال تلك الظروف العصيبة التي كانت تمرُّ بها مملكة بيت المقدس عقب تتويج جاي لوزنيان؛ الذي تنازلت له زوجه عن الحكم وأصبح ملكاً لبيت المقدس، بعد أن خلعت التاج عن رأسها ووضعته على رأسه قائلةً: زوجي أقدر، وهو أحقُّ بالملك وأجدر ( صلاح الدين الأيوبي، علي الصلابي، ص403).

وفشل القومص ريموند الصنجلي أمير طرابلس في الفوز بذلك المنصب عندما رفض فرسان الداوية استقلاله بالحكم، وطالبوه بالعمل بالوصية التي كانت تقضي له بحقِّ الوصاية فقط، الأمر الذي جعله يلقي بنفسه بين أحضان صلاح الدين طالباً منه مساعدته ضدَّ ملك بيت المقدس والداوية، وأجاب صلاح الدين نداءه، وأمدَّه بالمعونه اللاَّزمة، وبذلك استطاع أن يضم إليه حليفاً جديداً من الصَّليبيين، مكوِّناً بذلك ثغرةً كبيرةً في صفوف الصَّليبيين (الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ص175).

وبالفعل أوشك الصدام المسلح أن يحتدم بين الملك جاي وبين ريموند؛ حيث عسكر ريموند في طبرية، وأقام هناك في زي المتطاول المتفاخر بعد أن ضمَّ حوله عدداً كبيراً من الصليبيين، كما قام ملك بيت المقدس أيضاً بحشد جيشٍ عظيمٍ لمهاجمة طبرية لولا تدخل بعض الأمراء لتهدئة الموقف، ومطالبة الطرفين بالاتحاد لمواجهة ذلك الاستعداد الهائل الَّذي أعدَّه صلاح الدين لهم، الأمر الذي اضطرَّ الملك لوزنيان إلى المسير بنفسه إلى القومص ريموند الصنجلي لاسترضائه ومصالحته (الروضتين في أخبار الدولتين، شهاب الدين عبد الرحمن، 176).

وعلى الرغم من ذلك فإنه يمكن القول بأنَّ صلاح الدين قد جنى من جراء تدخُّله في شؤون الصَّليبيين بمساعدة أحدهما ضد الآخر ثماراً، أهمُّها ذلك الاختلاف الكبير في وجهات النظر بين ريموند الصنجلي وبعض الأمراء الصليبيين، وفي مقدِّمتهم أرناط صاحب حصن الكرك، ولعلَّ هـذا هو السبب الذي جعل المؤرخ ابن الأثير يصف هـذا التَّحالف بين صلاح الدين وريموند الصنجلي رغم قصر مدَّته بأنه: من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم واستنقاذ البيت المقدَّس منهم، وهكـذا عقد صلاح الدين مع بوهيموند الثالث أمير أنطاكية هدنةً منفصلةً معه إما بناء على طلب منه وأما بدعوة من صلاح الدين؛ ليطمئنَّ على خطوطه الخلفية ويتفرَّغ للقتال في الجنوب، ووسع ريموند الثالث مدى اتفاقيته مع صلاح الدين مضيفاً إليها حماية منطقة الجليل، وبذلك يكون قد فتح الطريق لصلاح الدين للولوج بين الأردن وفلسطين (تاريخ الأيوبيين، طقوس، ص143).

رينولد دي شاتيون ينقُض مجدداً الهدنة مع المسلمين:

أثار تحالف صلاح الدين مع ريموند الثالث غضب " رينولد دي شاتيون" المعروف في المصادر العربية بــ "أرناط"؛ الذي كان في هدنةٍ مع صلاح الدِّين، وقد اشتهر بالتفكير المنفرد، وبفضل ما تنطوي عليه الهدنة من بذل الحماية صارت القوافل التجارية تتردَّد بين مصر وبلاد الشام مجتازةً الأراضي الصَّليبية بأمان، ولا شكَّ بأنَّ ذلك عاد بالفائدة على رينولد نفسه نظراً لما يفرضه من ضرائب ومكوس عليها، ولكن كما يبدو أنَّه لا يستطيع الحياة دون أن ينهب ويسرق، فقام بنقض هدنته مع صلاح الدين عام 582 هـ/أواخر عام 1186 م حين أوقف قافلةً تجاريةً كبيرةً مارَّةً بأرض الكرك في طريقها من مصر إلى بلاد الشام واستولى عليها، فقتل حرَّاسها وأسر بعض الجند، كما قبض على مَنْ في القافلة من تجَّار وعائلات وحملهم إلى حصن الكرك (الكامل في التاريخ، ابن الأثير، م10/19).

لم تلبث أنباء الاعتداء أن وصلت إلى مسامع صلاح الدين، ولحرصه على احترام المعاهدة أرسل إلى رينولد ينكر عليه هـذا العمل، ويتهدَّده إن لم يُطلق سراح الأسرى ويعيد الأموال، غير أنَّ صاحب الكرك رفض استقبال رسله، وعندما وجد صلاح الدِّين إعراضاً من جانب رينولد؛ أرسل إلى الملك جاي لوزنينان شاكياً، ومطالباً بالنصح لرينولد بإعادة الأسرى والأموال. لبَّى جاي دعوة صلاح الدِّين، لكنَّه أخفق في الضغط على رينولد، وكان لهـذا الأسلوب الذي استخدمه صلاح الدين في موضوع الأسرى الذين وقعوا بيد أرناط صاحب حصن الكرك ومطالبته إيَّاه بإطلاق سراحهم وردِّ أموالهم دون استخدام القوَّة، كان له الأثر الأكبر في إدخال الخلاف وعدم الثِّقة بين ملك بيت المقدس وأرناط الذي لم يستجب لرجائه باحترام الهدنة المعقودة مع صلاح الدين، وأصبح الملك الصَّليبي يتشكَّك في نوايا أرناط وطمعه في الانفراد بحكم تلك المنطقة، فكلٌ منهما بات حذراً من الآخر (صلاح الدين والصليبيون، الغامدي، ص176).

كانت هـذه التحالفات ونقضها نقطة الانطلاق الأولى نحو معركة حطِّين، ذلك أنَّ تحالف صلاح الدين مع ريموند الثالث أتاح له مجالاً للتدخل في السياسة الداخلية للصَّليبيين، وإنَّ تجديد تحالفه مع كلٍّ من ريموند الثالث وبوهيموند الثالث حرما مملكة بيت المقدس من مساعدة أقوى إمارتين صليبيتين في الشام، وهما إمارة طرابلس وإمارة أنطاكية، وهكـذا نجح صلاح الدين في شقِّ الصفِّ الصَّليبي، وفي المقابل فإنَّه نجح في توحيد الصفِّ الإسلامي، فأعدَّ الجيوش الإسلامية في مصر والجزيرة والموصل والشام معنوياً وعسكرياً للمعركة التي أرادها فاصلةً.

وعندما اكتملت استعدادات التجهيز ، خرج صلاح الدين من دمشق في شهر محرم 583هـ/شهر آذار 1187م على رأس جيشٍ كبيرٍ متجهاً نحو الجنوب، فوصل إلى رأس الماء إلى الشَّمال الغربي من حوران، ثم اتَّجه إلى بصرى؛ ليستقبل قافلة الحجَّاج التي كان من عدادها أخته وابنها، ويضمن في الوقت نفسه عدم تعرض رينولد لهم؛ لأن التقارير التي وصلت إليه، أشارت إلى تربُّص حاكم الكرك بالحجَّاج، وبعد أن اطمأنَّ إلى وصول القافلة وسلامتها؛ شرع في مهاجمة الكرك، ولمَّا علم رينولد دي شاتيون (أرناط) بوجوده في المنطقة، تراجع إلى حصنه، وكان صلاح الدين قد ترك ابنه الأفضل نور الدين عليَّاً في رأس الماء ينتظر وصول العساكر التي استدعاها للجهاد، وكانت حركة صلاح الدِّين باتجاه الكرك تحقق هدفين:

الأول: التمويه على هدفه الحقيقي، وهو مهاجمة مملكة بيت المقدس.

الثاني: إخافة أرناط ومنعه من الذهاب إلى مملكة بيت المقدس.

سَرَّح صلاح الدين عساكره في المنطقة، فراحوا يعيثون فيها، ثمَّ قصد الشُّوبك، وفعل فيها مثلما فعل بالكرك، وظلَّ في الأردن شهر صفر وربيع الأول 583 هـ/شهر نيسان وأيار 1187م تغطيةً للحشود التي كانت تتجمَّع حول ابنه الأفضل في رأس الماء (صلاح الدين، الصلابي، ص405).

وقعة صفورية:

في الوقت الذي كان صلاح الدين فيه معسكراً بالقرب من حصن الكرك والشوبك لحماية الحجاجِ من اعتداءات الصَّليبيين؛ عمد إلى إرسال قَّوةٍ استطلاعيةٍ، انتخب أفرادها انتخاباً، وأسند قيادتها إلى مظفر الدين كوكوري صاحب حرَّان وبدر الدِّين لدرم بن ياروق أمير عسكر حلب، وصارم الدين قايماز النجمي أمير عسكر دمشق؛ لتقوم بالإغارة على ممتلكات العدوِّ لإضعاف معسكراته وكشف مخطَّطاته، فسارت هـذه السرية المدجَّجة بالسِّلاح والعتاد باتجاه صفورية، وقد حرص قوَّادها على أن يكون مسيرها على قدر كبير من السرية، والخفاء، فكان سيرهم إليها في الجزء الأخير من الليل، على أن يكون هجومهم عليها في الصَّباح الباكر، وبالفعل فقد نُفِّذت تلك الخطة بدقَّة تامَّةٍ وصبّحوا صفورية، وساء صباح المنذرين (الروضتين، عبد الرحمن، م2/ص75).

وأما الصَّليبيون الذين كانوا ينعمون بنومٍ هادئ في ذلك الوقت؛ فإنهم قد استيقظوا على أصوات السيوف والرِّماح، وأسرعوا إلى لمِّ شعثهم وتجميع قواهم لمواجهة ذلك الهجوم الإسلامي المفاجئ، والتقى الجمعان ودارت بينهما معركةٌ رهيبةٌ، انتهت بانتصارٍ إسلاميٍّ مظفَّر، وسقط معظم الصَّليبيين بين قتلى وأسرى، وكان كان من جملة القتلى، مقدَّم الاسبتارية، وعدد كبير من أبرز فرسانهم، ونجا مقدَّم الداوية بصعوبةٍ بالغةٍ.

وممَّا زاد الطِّين بلَّة: أنَّه عندما تجرَّأت قوةٌ صليبيةٌ أخرى على الإسراع إلى صفورية لنجدة إخوانهم؛ كانت المعركة قد انتهت، فأسر المسلمون تلك النَّجدة عن آخرها، وعاد المسلمون من هـذه المعركة سالمين غانمين، وكان انتصارهم في هـذه المعركة باكورة البركات، ومقدِّمةً لما بعدها من ميامين الحركات (مفرج الكروب، جمال واصل، م2/ص187). وهكـذا كبَّد المسلمون الصليبيين خسائر فادحة في الأرواح، والعتاد، وألقت هـذه المعركة الرُّعب في قلوب الصَّليبيين، وجعلتهم يُدْرِكون خطورة ذلك التَّجمُّع الإسلامي الرَّهيب؛ الذي أعدَّه صلاح الدين لجهادهم، مما رفع معنويات المسلمين وحطم معنويات الصليبيين فكان تمهيداً لنصر حطين فيما بعد.

 

 

المراجع:

  1. صلاح الدين الأيوبي، علي الصلابي، دار المعرفة، بيروت، 2013م.
  2. وفيات الأعيان وأنباء الزمان، لابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد، تحقيق إحسان عباس، دار صارد بيروت.
  3. مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.
  4. كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418 هـ 1997م.
  5. صلاح الدين والصليبيون استرداد بيت المقدس، عبد الله سعيد محمد الغامدي، دار الفضيلة بيروت، لبنان 1405 هـ 1985م.
  6. تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400 هـ 1999 م.
  7. النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية بهاء الدين بن شدَّاد، تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل سوريا، الطبعة الأولى 2003 م.
  8. الكامل في التاريخ لابن الأثير، دار المعرفة بيروت لبنان.
  9. الشرق الأدنى، في العصور الوسطى الأيوبيون، د. السيد الباز العريني، دار النهضة العربية.
  10. الحركة الصليبية، سعيد عاشور، الطبعة الرابعة 1986، مكتبة الأنجلو المصرية.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022