الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تزيين الشيطان للضلال والفسوق

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (61)

 

﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾: فالقضية عنده كاملة بكل تفاصيلها. ولا تتعجب من مقالة الهدهد، واقرأ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].

إنها موعظة بليغة من واعظ متمكن يفهم عن الله، ويعلم منهجه، ويدعو إليه، بل يعز عليه، ويعز في نفسه أن ينصرف العباد عن الله المنعم. ولم يكن الهدهدُ مجرّدَ جامعِ معلوماتٍ دقيقةٍ، ومقدِّمَ تقاريرَ صحيحةٍ -رغم أهمية ذلك- إلا أنه كان صاحب فكر ورأي، وموقف وقرار، ودعوة وقضية، مع أنه هدهد طائر؛ ولذلك شفع تقريره بتعليقه وتعقبه على الحادثة وسجل تفاعله وتأثره بما رأى وغيرته على الحق الذي تركوه، وإنكاره للباطل الذي اتّبعوه، فقال:

- ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾: ‌إنه ‌من ‌الحقائق النفسية الثابتة أن أول الشر استحسانه، فالشيطان يزيِّن أعمالَ السوء للفاعل ويحسِّنها له، ويظنّ أنها الخير وحدها، وأن ما عداها باطل، وفرق بين المهتدي وغير المهتدي، أن من هداه اللَّه يميِّز الخبيث من الطيب، فلا يتردى في باطل، وإن تردى فيه سرعان ما يعود إلى الحق، ولا يقبل وسوسة الشيطان بالشر، وليس قلبه موضع لتزيينه.

- ثم قال: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾: أي أنهم بسبب تزيين الشيطان لهم قد مكنوه من أنفسهم، فصدهم عن السبيل، أي لعلهم يعرضون عن الطريق المستقيم في ابتدائه، ومن ضل في أول الطريق سار في ضلال إلى آخره، ولذا قال مرتبا على ذلك: فهم لَا يهتدون، أي فهم يسيرون في ضلال غير مهتدين إلى الحق إلى النهاية، حتى يكون الحساب والعقاب:

﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)﴾.

- ﴿أَلَّا﴾: ‌مكوَّنة ‌من ‌أنْ، لا، وعند إدغامهما تُقلَبُ النون لَاماً فتصير: ألّا، فالمعنى: وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم، لماذا؟ لألَّا يسجدوا، فهنا حرف جر محذوف كما تقول: عجبتُ من أن يَقْدم علينا فلان، أو عجبت أن يقدم علينا فلان.

وفي قراءة أخرى: (أَلَا) للحثِّ والحضِّ. فالله وحده المعبود وينبغي أن يكون له وحده السجود لأنه الخالق الرازق العالم العظيم، وغيره ليس كذلك، فكيف يكون إلها معبوداً؟

- الله هو ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: والخبء هو: المخبوء في السموات والأرض.

قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: يعلم كل خبيئة في السموات والأرض.

وقال عبد الرحمن بن زيد: خبء السموات والأرض: ما جعل فيها من أرزاق؛ المطر من السماء، والنبات في الأرض.

ومن التناسق في التعبير القرآني أنه في معرض الاستدلال على وحدانية الله في هذه الآية، ذكر من كلام الهدهد ما يتفق مع اهتمامه وفهمه وحياته؛ فالهدهد عرف الله من خلال معرفته علم الله بالخبء في السموات والأرض، وإخراج الله للمخبوء في السموات والأرض، وهذا يتفق مع عمل الهدهد وسعيه في الرزق، فالهدهد يقوم بالبحث عن المخبوء في الأرض من الحبوب وغيرها، ويفتش بمنقاره عن ذلك المخبوء المدفون ثم يخرجه ويأكله.

وبعدما أبرز التعبير القرآني اهتمام الهدهد بمخبوء الأرض، انتقل للحديث عن دليل الوحدانية في حياة البشر: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾؛ فالله وحده يعلم ما يخفيه الناس، وما يعلنونه، والمعبودون من دونه لا يعلمون ذلك، فكيف يكونون آلهة؟

واجتماع الدليلين: إخراج الله الخبء وعلمه بما يخفيه الناس ويعلنونه، يدل على أنه وحده الإله المعبود: الله لا إله إلا هو.

 

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 271-274.

- تفسير الشعراوي (17/10773).

- زهرة التفاسير (10/5448).

- تفسير ابن كثير (3/349).

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022