الأرض في القرآن الكريم
الحلقة الثامنة والعشرون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
جمادى الأول 1441ه/يناير 2020م
جاء ذكر الأرض في أربعمائة وواحد وستين "461" موضعاً من كتاب الله، منها ما يشير إلى الأرض ككل في مقابلة السماء، ومنها ما يشير إلى اليابسة التي نحيا عليها، أو إلى جزء منها ومنها ما يشير إلى التربة التي تغطي صخور الغلاف الصخري للأرض، واليابسة هي جزء من الغلاف الصخري للأرض وهي كتل القارات السبع المعروفة والجزر المحيطة العديدة ومن الآيات الكريمة التي تحدثت عن الأرض:
1ـ قال تعالى:" وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ" (الذاريات، آية : 20).
هذه الأرض، هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصها على نحو يكاد يكون فريداً في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل، الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة، التي يبلغ عدد المعروف منها فقط ـ والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة هذا الكون ـ مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم، والكواكب هي توابع هذه النجوم. ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جداً لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها، ولو تغير حجمها صغراً أو كبراً، لو تغير وضعها من الشمس قرباً أو بعداً، لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها، لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ لو تغير حجم القمر ـ تابعها ـ أو بعده عنها، لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصاً.. لو لو لو.. إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته.
أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي؟ ثم هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكن سطحها أو تسبح في أجوائها، أو تبخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها، هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى، ولا تحصى أنواع غذائها أيضاً، هذه الأقوات الكامنة في جوفها، والسارية في مجاريها، والسابحة في هوائها، والنابتة على سطحها، والقادمة إليها من الشمس ومن عوامل أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول، ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة، وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى.
وتتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حيثما امتد الطرف وحيثما تنقلت القدم، وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفذ من هاد وبطاح، ووديان وجبال وبحار وبحيرات وأنهار وغدران، وقطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان.. وكل مشهد من هذه المشاهد تناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير، ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد، ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد، ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر، وهو لم ينتقل باعاً ولا ذراعاً، والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء نباتاً وحيواناً، وطيراً وسمكاً، وزواحف وحشرات، أما الإنسان فيفرده القرآن بنص خاص، هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد ـ فضلاً على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل، وكل خليقة منها أمة، وكل فرد منها عجيبة، كل حيوان، كل طائر، كل زاحفة، كل حشرة، كل دودة، كل نبتة، لا بل كل جناح في يرقة، وكل ورقة في زهرة، وكل قصبة في ورقة في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه.
ولو مضى الإنسان ـ بل لو مضى الناس جميعاً ـ يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب وإلى ما تثير هذه العجائب من آيات، ما انتهى لهم قول ولا إشارة والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاب العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب، والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسيرة طوال الرحلة.
غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين " وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ"، فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع، وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء، لا تنطلق للقلب بشيء، ولا تتجاوب معه بشيء وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة، لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم وقد يكون منهم علماء " يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان ولا تراها إلا بنور اليقين.
فسبحان الله الذي خلق الأرض بهذا القدر من الإحكام والإتقان، وترك فيها من الآيات ما يشهد لخالقها بطلاقة القدرة، وإحكام الصنعة، وشمول العلم، كما يشهد له ـ تعالى ـ بجلال الربوبية وعظمة الألوهية، والتفرد بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه وبالقدرة على إفناء هذا الخلق، ثم إعادة بعثه، وحسب كل بعمله، وجزائه عليه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
2 ـ قال تعالى:" وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا"(النازعات، آية : 30 ـ 31).
ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها بحيث تصبح صالحة للسير عليها، وتكوين تربة تصلح للإنبات وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع، أو ما ينزل من السماء فهو أصلاً من مائها الذي تبخر، ثم نزل في صورة مطر، وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات.
والقرآن يعلن أن هذا كله كان " مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ".
وتحدث الدكتور زغلول النجار عن هذه الآية الكريمة بأسلوب علمي فقال: شاءت إرادة الخالق العظيم أن يُسكن في الأرض هذا القدر الهائل من الماء، الذي يكفي جميع متطلبات الحياة على هذا الكوكب، ويحفظ التوازن الحراري على سطحه، كما يقلل من فروق الحرارة بين كل من الصيف والشتاء صوناً للحياة بمختلف أشكالها وهذا القدر الذي يكوّن الغلاف المائي للأرض أخرجه الله تعالى من داخل الأرض بكميات محسوبة بدقة بالغة، فلو زاد قليلاً لغطى كل سطحها، ولو قل قليلاً لقصر دون الوفاء بمتطلبات الحياة عليها، وللتوفيق بين هذين الأمرين حبس ربنا سبحانه مكامن هذا الماء من الجليد فوق قطبي الأرض وفي قمم الجبال كي يوفر للأرض مصدراً للرطوبة المطلوبة ويكشف من اليابسة ما يسمح للحياة بالانتشار عليها ولكي يحفظ ربنا سبحانه هذا الماء من التعفن والفساد حركه في دورة معجزة تعرف باسم: دورة المياه الأرضية ولما كانت نسبة بخار الماء في الغلاف الغازي للأرض ثابتة، فإن كم سقوط الأمطار سنوياً على الأرض يبقى متساوياً لكم التبخر من على سطحها وإن تباينت أماكن وكميات السقوط في كل منطقة حسب الإرادة الإلهية ولذلك يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه"، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال ربكم: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب".
وقد ثبت أن أكثر الغازات اندفاعاً من فوهات البراكين بعد بخار الماء هو ثاني أكسيد الكربون الذي يعتبر أساس عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بتنفيذها النباتات الخضراء مستخدمة هذا الغاز مع الماء وعدد من عناصر الأرض لبناء العديد من الكربوهيدرات التي تنبني منها خلايا النبات وأنسجته وزهوره وثماره، ومن هنا عبر القرآن الكريم عن إخراج هذا الغاز المهم وغيره من الغازات اللازمة لإنبات النبات من الأرض تعبير بإخراج المرعى، لأنه لولا ثاني أكسيد الكربون ما أنبتت الأرض ولا كستها الخضرة وقد عبر القرآن الكريم عن تلك الحقائق الكونية المتضمنة إخراج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض من داخل الأرض بأسلوب لا يفزع العقلية البدوية في صحراء الجزيرة العربية وقت تنزله، فقال " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا" (النازعات، آية : 30 ـ 31).
والعرب في قلب الجزيرة العربية كانوا يرون الأرض تتفجر منها عيون الماء فقالوا: هذا هو إخراج مائها منها، ويرون الأرض تكسى بالعشب الأخضر بمجرد سقوط المطر عليها، فقالوا: هذا هو إخراج مرعاها منها ففهموا هذا المعنى الصحيح الجميل من هاتين الآيتين الكريمتين، ثم نأتي نحن اليوم فنرى في نفس الآيتين رؤية جديدة مفادها أن الله تعالى يمن على الأرض وعلى جميع من يحيا على سطحها بأن هيأها لهذا العمران بإخراج كل من أغلفتها الصخرية والمائية والغازية حيث تصل درجات الحرارة إلى آلاف الدرجات المئوية، مما يشهد لله الخالق بطلاقة القدرة وببديع الصنعة وبكمال العلم، وتمام الحكمة وورودها في القرآن الكريم بهذه الدقة والشمول والإحاطة لما يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:" قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الفرقان، آية : 6).
وقال تعالى:" لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا" (النساء، آية : 166).
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (133:128).
* زغلول النجار، من آيات الإعجاز الأرض، صفحة (146،145،96).