الأرض في القرآن الكريم (٢)
الحلقة التاسعة والعشرون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
جمادى الأول 1441ه/يناير 2020م
نقصان الأرض من أطرافها : قال تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (الرعد، آية : 41).
قيل: بإهلاك المكذبين واستئصال الظالمين، وقيل: بفتح بلدان المشركين ونقصهم في أموالهم وأبدانهم، وقيل غير ذلك من الأقوال والظاهر.. ـ والله أعلم ـ أن المراد بذلك أن أراضي هؤلاء المكذبين، جعل الله يفتحها ويجتاحها ويحل القوارع بأطرافها تنبيهاً لهم قبل أن يجتاحهم النقص ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يرده أحد ولهذا قال: " وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ": ويدخل في هذا حكمه الشرعي والقدري والجزائي، فهذه الأحكام التي يحكم الله فيها توجد في غاية الحكمة والإتقان ولا خلل فيها ولا نقص، بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد، فلا يتعقبها أحد ولا سبيل إلى القدح فيها، بخلاف حكم غيره، فإنه قد يوافق الصواب وقد لا يوافقه " وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" أي: فلا يستعجلوا بالعذاب، فإن كل ما هو آت فهو قريب.
ـ من الدلالة العلمية لإنقاص الأرض من أطرافها:
ترد لفظة "الأرض" في القرآن الكريم بمعنى الكوكب ككل، كما ترد بمعنى اليابسة التي نحيا عليها من كتل القارات والجزر البحرية والمحيطية، وإن كانت ترد أيضاً بمعنى التربة التي تغطي صخور اليابسة ولإنقاص الأرض من أطرافها من إطار معنى من تلك المعاني عدد من الدلالات العلمية التي نحصي منها ما يلي:
في إطار دلالة لفظة "الأرض" على "الكوكب" ككل، ففي هذا الإطار نجد ثلاثة معان علمية بارزة يمكن إيجازها فيما يلي:
ـ إنقاص الأرض من أطرافها بمعنى انكماشها على ذاتها، وتناقص حجمها باستمرار.
ـ إنقاص الأرض من أطرافها بمعنى: تفلطحها قليلاً عند القطبين، وانبعاجها قليلاً عند خط الاستواء.
وفي إطار دلالة لفظ الأرض على اليابسة التي نحيا عليها، في هذا الإطار نجد معنيين علميين واضحين نوجزهما فيما يلي:
إنقاص الأرض من أطرافها بمعنى أخذ عوامل التعرية المختلفة من المرتفعات السامقة وإلقاء نواتج التعرية في المنخفضات من سطح الأرض حتى تتم تسوية سطحها.
ـ إنقاص الأرض من أطرافها بمعنى طغيان مياه البحار والمحيطات على اليابسة.
وفي إطار دلالة لفظ الأرض على التربة التي تغطي صخور اليابسة:
ـ إنقاص الأرض من أطرافها بمعنى التصحر أي: زحف الصحاري على مساحات كبيرة من الأرض الخضراء بسبب ندرة المياه ونتيجة لموجات الجفاف وللجور على مخزون المياه تحت سطح الأرض وبسبب الرعي الجائر، واقتلاع الأشجار، وتحويل الأراضي الزراعية إلى أرض للبناء، مما أدى إلى تملح التربة وتعريتها بمعدلات سريعة تفوق بكثير محاولات استصلاح بعض الأراضي الصحراوية، أضف إلى ذلك التلوث البيئي، والخلل الاقتصادي في الأسواق المحلية والعالمية، وتذبذب أسعار كل من الطاقة والآلات والمحاصيل الزراعية، مما يجعل العالم يواجه أزمة حقيقية تتمثل في انكماش المساحات المزروعة سنوياً بمعدلات كبيرة خاصة في المناطق القارية وشبه القارية نتيجة لزحف الصحاري عليها، ويمثل ذلك صورة من صور خراب الأرض بإنقاصها من أطرافها.
هذه المعاني منفردة أو مجتمعة تعطي بعداً علمياً رائعاً لمعنى إنقاص الأرض من أطرافها.
4ـ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ" (الطارق، آية : 12):
ومن المعاني الصحيحة التي فهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معنى انصداعها عن النبات، أي انشقاقها عنه وهو صحيح، ولكن لما كانت لفظة "الأرض" قد جاءت في القرآن الكريم بمعنى التربة التي تغطي صخور اليابسة، وبمعنى كتلة اليابسة التي نحيا عليها، وبمعنى كوكب الأرض كوحدة فلكية محددة، فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لابد وأن يكون له دلالة في كل معنى من معاني كلمة الأرض، كما نجده في:
ـ انصداع التربة عن النبات.
ـ تصدع صخور اليابسة.
ـ تصدع الغلاف الصخري للأرض.
وسبحان الذي أقسم بالأرض ذات الصدع تضخيماً لظاهرة من أروع ظواهر الأرض وأكثرها إبهاراً للعلماء وأشدها لزوماً لجعل الأرض كوكباً صالحاً للعمران بالحياة، فعبر هذه الصدوع العملاقة خرج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض، ولا يزالان يتجددان وعبر النشاط الملازم لها تحركت ألواح الغلاف الصخري الأولي للأرض فتكونت الجزر البركانية، والقارات والسلاسل الجبلية وتجددت قيعان المحيطات ولا تزال تتجدد، وتزحزحت القارات ولا تزال تتحرك وتبادلت اليابسة والمحيطات، وثارت البراكين لتخرج قدراً من الحرارة الأرضية الحبيسة في داخل الأرض والتي كان من الممكن أن تفجرها لولم تتواجد تلك الصدوع العملاقة وخرجت كميات هائلة من المعادن والصخور ذات القيمة الاقتصادية مع هذه الثورات البركانية ونشطت دنياميكية الأرض، وثبتت ألواح غلافها الصخري الأولي للأرض فتكونت الجزر البركانية والقارات والسلاسل الجبلية، وتجددت قيعان المحيطات ولاتزال تتجدد، وتزحزحت القارات ولاتزال تتحرك وتبادلت اليابسة والمحيطات، وثارت البراكين لتخرج قدراً من الحرارة الأرضية الحبيسة في داخل الأرض، والتي كان من الممكن أن تفجرها لو لم تتواجد تلك الصدوع العملاقة، وخرجت كميات هائلة من المعادن والصخور ذات القيمة الاقتصادية مع هذه الثورات البركانية، ونشطت ديناميكية الأرض، وثبتت ألواح غلافها الصخري بالجبال، ولاتزال ديناميكية الأرض تحرك ذلك كله بأمر الله الخالق سبحانه وتعالى، وهنا نرى في صدوع الأرض أبعاد ثلاثة: بعداً لا يتعدى بضعة ملليمترات أو بضعة سنتيمترات في انصداع التربة عن النبات، وبعداً آخر في صدوع اليابسة التي تمتد الحركات الأرضية عبر مستوياتها من عشرات السنتيمترات إلى مئات الأمتار، وبعداً ثالثاً في الصدوع العملاقة التي تنتشر أساساً في قيعان المحيطات كما توجد في بعض اليابسة على هيئة أغوار سحيقة.
ونرى أهمية هذه الأبعاد في تهيئة الأرض للعمران ومن هنا كانت روعة الإشارة القرآنية إلى حقيقة " وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ".
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (137:134).
* زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في الأرض، صفحة (182،181،165،164).