السبت

1446-10-28

|

2025-4-26

من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: " الجوار الكنس"

الحلقة الثامنة عشر

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441ه/ يناير 2020م

قال تعالى:" فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ" (التكوير، آية : 17 ـ 18).
ذهب جمهور المفسرين إلى القول بأن من معاني " فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ" أن الله أقسم قسماً مؤكداً بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معنى الخنس والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها أي: مغاراتها وهو معنى الجوار الكنس.
وقال السعدي: أقسم الله " بِالْخُنَّسِ" وهي الكواكب التي تخنس أي: تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة المشرق ... فأقسم الله بها في حال خنوسها، أي: تأخرها، وفي حال جريانها وفي حال كنوسها أي: استثارها بالنهار.
ويرى الباحث العالم الكبير في مجال الإعجاز العلمي الدكتور زغلول النجار: أن الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين :" فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ": ينطبق انطباقاً كاملاً مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السود وهذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة في القرن العشرين.

ـ ما هي الثقوب السود؟
يعرف الثقب الأسود بأنه أحد أجرام السماء التي تتميز بكثافتها الفائقة وجاذبيتها الشديدة بحيث لا يمكن للمادة ولا لمختلف صور الطاقة "ومنها الضوء" أن تفلت من أسرها ويحد الثقب الأسود سطح يعرف باسم أفق الحدث وكل ما يسقط داخل هذا الأفق لا يمكنه الخروج منه، أو إرسال أية إشارة عبر حدوده وقد أفادت الحسابات النظرية في الثلث الأول من القرن العشرين إلى إمكانية وجود مثل هذه الأجرام السماوية ذات الكثافة الفائقة والجاذبية الشديدة إلا أنها لم تكتشف إلا في سنة 1971م، بعد اكتشاف النجوم النيوترونية بأربع سنوات.
ففي سنة 1971م اكتشف علماء الفلك أن بعض النجوم العادية تصدر وابلاً من الأشعة السينية، ولم يجدوا تفسيراً عملياً لذلك إلا وقوعها تحت تأثير أجرام سماوية غير مرئية ذات كثافات خارقة للعادة ومجالات جاذبية عالية الشدة وذلك لأن النجوم العادية ليس في مقدورها إصدار الأشعة السينية من ذاتها، وقد سميت تلك النجوم الخفية باسم الثقوب السود لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به أو يدخل في نطاق جاذبيتها من مختلف صور المادة والطاقة من مثل الغبار والغازات الكونيين، والأجرام السماوية المختلفة ووصفت بالسواد لأنها معتمة تماماً لعدم قدرة الضوء على الافلات من مجال جاذبيتها على الرغم من سرعته الفائقة المقدرة بحوالي الثلاثمائة ألف كلم/ الثانية "299792,458كلم/ث" وقد اعتبرت الثقوب السود مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة وهي المرحلة التي قد تسبق انفجارها وعودة مادتها إلى دخان السماء دون أن يستطيع العلماء حتى هذه اللحظة معرفة كيفية حدوث ذلك.
وطبيعة تلك الثقوب السود وطريقة فنائها تبقى معضلة كبرى أمام كل من علماء الفلك والطبيعة الفلكية، فحسب قوانين الفيزياء التقليدية لا يستطيع الثقب الأسود فقد أي قدر من كتلته مهما تضاءل، ولكن حسب قوانين فيزياء الكم فإنه يتمكن من الإشعاع وفقدان كل من الطاقة والكتلة إلى الدخان الكوني وهي سنة الله الحاكمة في جميع خلقه، ولكن تبقى كيفية تبخر مادة الثقب الأسود بغير جواب، وتبقى كتلته، وحجمه، وكثافته وطبيعة المادة والطاقة فيه وشدة حركته الزاوية وشحناته الكهربية والمغناطيسية في الاسرار التي يكافح العلماء إلى يومنا هذا من أجل استجلائها.
فسبحان الذي خلق النجوم وقدر لها مراحل حياتها ... وسبحان الذي أوصلها إلى مرحلة الثقب الأسود، وجعله من أسرار الكون المبهرة.. وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة، الحالكة السواد، الغارقة بالظلمة، وجعل لها من الظواهر ما يعين الإنسان على إدراك وجودها على الرغم من تسترها واختفائها، وسبحان الذي مكنها من كنس مادة السماء وابتلاعها وتكديسها، ثم وصفها القرآن المعجز فقال سبحانه :" فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ" ولا أجد وصفاً لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السود أبلغ من وصف الخالق سبحانه لها بالخنس الكنس، فهي خانسة أي دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها وهي كانسة لصفحة السماء، تبتلع كل ما تمر به من المادة المنتشرة بين النجوم وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء، وهي جارية في أفلاكها المحددة لها، فهي خنس جوار كنس وهو تعبير أبلغ بكثير من تعبير الثقوب السود الذي اشتهر وذاع بين المشتغلين بعلم الفلك " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا" (النساء، آية: 87).
ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السود تسمية مجازية عجيبة تنطبق انطباقاً دقيقاً على الوصف القرآني "الخنس الجواري الكنس" كما فصلناه آنفاً وذلك حين يسمونها بالمكانس الشافطة العملاقة التي تبتلع أو تشفط كل شيء يقترب منها إلى داخلها وتبقى الثقوب السود صورة مصغرة للجرم الأول الذي تجمعت فيه مادة الكون ثم انفجر ليتحول إلى سحابة من الدخان وأن من هذا الدخان خلقت السموات والأرض، وتتكرر العملية اليوم أمام أنظار المراقبين من الفلكيين حيث تتخلق النجوم الابتدائية من تركز المادة في داخل السدم عبر دوامات تركيز المادة ومنها تتكون النجوم الرئيسية والتي قد تتفجر حسب كتلتها إلى عمالقة حمر أو نجوم مستعرة أو مستعرة عظمى، وقد يؤدي انفجار العمالقة الحمر إلى تكون أعداد من السدم الكوكبية والتي تنتهي إلى تكون الأقزام البيض أو تستمر في التبرد حتى تنتهي إلى ما يعرف باسم الأقزام السود وهي من النجوم المنكدرة، كما قد يؤدي انفجار فوق المستعرات إلى تكون نجوم تيوترونية غير نابضة أو نابضة أو إلى تكون ثقوب سود حسب كتلتها الابتدائية، وقد تفقد الثقوب السود كتلتها إلى دخان السماء عن طريق تبخر تلك المادة على هيئة أشباه النجوم المرسلة لموجات راديوية عبر مراحل متوسطة عديدة، ثم تتفكك هذه ليتعود مرة أخرى إلى دخان السماء مباشرة أو عبر هيئة كهيئة السدم حتى تشهد لله الخالق بالقدرة الفائقة على أنه وحده الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وأنه وحده على كل شيء قدير.
ومن المبهر حقاً أن يشهد علماء الفلك اليوم 90% من مادة الكون المنظور ـ ممثلة بمادة المجرات العادية ـ هي مواد خفية لا يمكن للإنسان رؤيتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ولكن يمكن تقديرها حسابياً فقط وأن من هذه المواد الخفية : الثقوب السود، والمادة الداكنة، واللبنات الأولية للمادة وغيرها وأن كتلة المدرك من الكون تقدر حسابياً بأكثر من مائة ضعف الكتلة الظاهرة فسبحان الذي أنزل في محكم كتابه قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق :" فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ" (الحاقة، آية : 38 ـ 39).
وسبحان الذي وصف لنا " الثقوب السود" بوصفه الرباني " بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ" وهو وصف يفوق التسمية العلمية لها باسم الثقوب السود دقة وشمولاً وإحاطة، ويشهد لمنزله في محكم كتابه بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة، كما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي " لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت، آية : 42).

المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (81:77).
* زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي السماء في القرآن الكريم، صفحة (215- 218- 231).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022