البيت الحرام ومقام إبراهيم .. المكانة والقدسية
قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125)} ]سورة البقرة[.
ذكر الله تعالى أنموذجاً باقياً دالاً على إمامة إبراهيم - عليه السّلام - وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركناً من أركان الإسلام حاطاً للذنوب والآثام، وفيه من آثار الخليل وذريته ما عرف به إمامته وتذكرت به حالته.
وقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}:
يعني: اذكر يا محمد للناس هذا الأمر الذي صيرناه للناس، والمراد به الكعبة، مرجعاً ومعاداً، كلما انصرفوا منه اشتاقوا إليه، فعادوا وثابوا إليه في الحج والعمرة والعبادة فلا ينقضي منه الوطر ولا تشبع منه النفوس، ويثوبون إليه أيضاً في الصلاة بقلوبهم ويتوجهون إليه بأجسادهم ويتذكرونه في كل يوم وليلة.
وسمّيت الكعبة بذلك لتكعيبها، أي تربيعها ولارتفاعها ونتوئها، وارتفاع ذكرها في الدنيا واشتهار أمرها في العالم، ولذلك يقولون لمن عظم أمره: فلان علا كعبه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عدة أسماء للكعبة من هذه الأسماء: البيت العتيق، قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ]الحج:29[، وسبب تسميته بالبيت العتيق قيل في عدة أسباب منها:
- لأنَّ الله تعالى أعتقه من الجبابرة.
- أنَّ العتيق بمعنى القديم.
- أنّه لم يملك قط.
- لأنّه أعتق من الغرق زمن الطوفان.
وسمّيت مكة ببكة، حيث قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ..}، و ذكر العلماء عدة أقوال فيسبب التسمية، منها:
- ازدحام الناس عندها، والمعنى هو الزحم، إذ يُقال: بكّ فلان فلاناً إذا زحمه وصدمه، فهو يبكه بكا، وسميت البقعة بفعل المزدحمين بها.
- لأنّها تبكّ أعناق الجبابرة، أي تدقها، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله.
- لأنّها تقع من نخوة المتجبرين، يقال بككت الرجل أي وضعت منه، ووردت نخوته بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها.
ومن أسمائها المسجد الحرام قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ]البقرة:144[.
ومن أسمائها أم القرى؛ لشرفها وعلو كعبها على باقي القرى، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ]الشورى:7[، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ]الأنعام:92[، وسمّيت بأم القرى؛ لتقدمها على سائر القرى، وسميت بذلك لأنَّ الأرض منها دحيت وعنها حدثت فصارت أماً لها لحدوثها عنها، كحدوث الولد عن أمه، وسمّيت كذلك بالبلد الأمين: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}.
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي معلقاً على قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}: تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة، بيت مأخوذ من البيتوتة، وهو المأوى الذي تأوي إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك، ولذلك سّميت الكعبة بيتاً؛ لأنّها في المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله، ومثابةً يعني مرجعاً تذهب إليه وتعود ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يجب أن يرجع مرات ومرات، إذن فهو مثابة؛ لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربّه، وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته.
وإن الإنسان لينظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدره من ضيق وهم وحزن، ولا يتذكر أولاده ولا شؤون دنياه، ولو ظلت جاذبية بيت الله تعالى في قلوب الناس مستمرة؛ لتركوا كل شؤون دنياهم ليبقوا بجوار البيت، ولذلك كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حريصاً على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة.
ومن رحمة الله سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه؛ لأنَّ الحجيج في بيت ربهم، وكلما كربهم شيء أو همهم شيء، توجهوا إلى ربّهم وهم في بيته، فيذهب عنهم الهمّ والكرب، ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ]إبراهيم:37[، فقال (أفئدة) وليست أجساماً، وتهوي أي يلقون أنفسهم إلى البيت، فإن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله؛ ليمحو الله سبحانه ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة.
وقوله تعالى: {وَأَمْنًا} أي: جعلناه آمناً يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم، ويأمن فيه حتى الصيد والأشجار أن تقطع، وهو محل آمن لمن يسكنه، وكان الرجل في الجاهلية يرى قاتل أبيه وأخيه في الحرم، فلا يتعرض له وكانوا لا يُغيرون على مكة مع شركهم، ولأجل توفير الأمن فيه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن حمل السلاح في مكة المكرمة فقال: لا يُحمل فيها سلاح لقتال.
أما قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}: فالمقامُ في اللغة بفتح الميم: هو موضع القدمين، فهو اسمٌ للموضع، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه نبي الله إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسّلام - حين ارتفع بناؤه للبيت، وشق عليه تناول الحجارة، فكان يقوم عليه وابنه إسماعيل عليه السلام يناوله الحجارة.
وقام عليه أيضاً للنداء والأذان في الحج في الناس، وفي هذا الحجر المكرّم أثر قدمي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حيث جعل الله تعالى تحت قدميه من ذلك الحجر في رطوبة الطين، حيث غاصت فيه قدماه ليكون ذلك آيةً بينة ظاهرة، وهو الحجر الذي يعرفه الناس إلى اليوم عند الكعبة المشرّفة الذين يُصلون عنده ركعتي الطواف.
وهناك أقوال أخرى في المراد من {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} مرويةٌ عن بعض المفسرين المتقدمين، وسأذكرها لاستيفاء القول، فقيل: هو عرفة ومزدلفة والجمار، وقيل: هو الحرم كله، ومما يدل على صحة القول الأول الذي عليه الجمهور: أنّ الله تعالى أمرنا بفعل الصلاة خلف المقام في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ]البقرة:126[، وليس في الصلاة تعلّق بالحرم ولا سائر المواضع التي ذكرت في الأقوال الأخرى.
وروى أنس بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: وافقت ربي عزَّ وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ....
وصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم خلف المقام، كما في حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم في صحيحه، في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: فَرَمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فجعل المقام بينه وبين البيت، فدل على أن مراد الله تعالى بذكر المقام هو الحجر.
إنّ هذا الاسم في العُرف مُختص بهذا الحجر؛ ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه، وفي ذلك معجزة له، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره، فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى.
وإنّ هذا الحجر المكرّم {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} الذي قام عليه إبراهيم الخليل لبناء البيت، هو نفسه الذي قام عليه حين أمر بالأذان بالحج، ولا مانع من تكرّر صعوده على المقام مرة للبناء، وأخرى للنداء وهو صريح الروايات في ذلك، فورد في فتح الباري للحافظ بن حجر رحمه الله تعالى: فلما فرغ إبراهيم من بناء الكعبة، جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قام إبراهيم على المقام فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فوقف إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف.
وروى الفاكهي، بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: قام إبراهيم عن الحجر فقال: يا أيّها الناس، كتب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن، ومن كان سبق في علم الله أنه يحجّ إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك.
وإنَّ من آيات الله البينة الباقية على مرّ الأزمان في حرم الله الآمن أثر قدمي نبيه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في ذلك الحجر الكريم {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}، وقد جعل الله ذلك معجزة له حين قام عليه، وهو حجر صَلد، فلانَ تحت قدميه حتى أصبح كالطّين وغاصت قدماه فيه، ثم لما رفع قدميه عنه خلق الله فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى، وبقي أثرهما ظاهراً فيه من ذلك العصر - من حوالي خمسة آلاف سنة - إلى يومنا هذا إلى ما شاء الله.
ولمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام فضائل كثيرة، فقد جعل الله تعالى لهذا الحجر الكريم {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} فضائل عديدة وخصّه بآيات كثيرة، تدل على عظم شرفه وكبير شأنه، وقد ثبت فضله واشتهر بنص القرآن الكريم وصريح السنة النبوية المطهرة.
فخلّد الله ذكره في القرآن الكريم في آيتين عظيمتين عند ذكره جلّ وعلا بيته المشرف المعظم، فهو قرآن يُتلى على مر الدهور تخليداً لذكره الحسن، وبياناً لشرفه وفضله وتكرمة لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
فقد ذكره الله تعالى آية بينة من أعظم آيات حرم الله، كما أمر المؤمنين باتخاذه مصلّى لهم، قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ]البقرة:125[، وفي هذا الأمر باتخاذه مصلى تنويه بشرفه وشأنه وتخليدٌ لذكره ما تلا كتاب الله تالٍ، وما طاف بالبيت طائف، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ]آل عمران:96-97[، وهكذا أبقى الله تعالى ذكر هذا المقام الكريم يُذكر مع بيت الله وحجّه مع الصلاة والدعاء خلفه إلى ما شاء الله تعالى.
وبيّن الله تعالى لعباده أن في بيته المحرّم المعظم المبارك آيات بينات واضحة الدلالات {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، وإن مقام إبراهيم وأمن الداخل إلى الحرم جُعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات وخُصّا بالذكر لعظمهما.
وهذه الآية العظمى {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} هي في نفسها تشتمل على عدة آيات واضحات عجيبة ومعجزات باهرة، أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر الكريم، فهي آيات في آية، ومن هذه الآيات في مقام إبراهيم ما يلي:
- أثر القدمين في الصخرة الصماء آية.
- وغوصهما فيها إلى الكعبين آية.
- وإلانة بعض هذا النوع دون بعض آية.
- وارتفاع المقام لإبراهيم الخليل في السماء حين ارتفع بالبناء آية.
- وإبقاؤه على مر الزمان آية.
- وحفظه ألوف السنين من الأعداء مع كثرتهم وشدة عدائهم آية.
- المقام معجزة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ودليل على نبوته.
- ومن آيات المقام أيضاً أنه لا تخلو لحظة من اللحظات من قائم وراكع وساجد خلف المقام تحقيقاً لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فسبحان الله المعبود الصمد على الدوام جلّ وعلا.
كما أن الامر الرباني باتخاذه مصلى هو تكريمٌ عظيم لهذا المقام، وذلك في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}؛ وإن هذا الأمر الصريح من الله تعالى باتخاذ المقام مصلى، دليل على فضل وشرف هذا المقام الكريم وشأنه الكبير عند الله.
ومن مظاهر تكريمه أن من مواطن إجابة الدعاء خلف المقام: فقد نصّ كثير من العلماء والفقهاء على استحباب الدعاء عقب ركعتي الطواف خلف المقام؛ لأنّه من مواطن إجابة الدعاء وعلى هذا يدعو المصلي خلف المقام بما أحبّ من أمور الدنيا والآخرة، والأفضل أن يدعو بما هو مأثور.
ولما كان من حكم الصلاة خلف المقام تذكر باني البيت العتيق، وهو نبي الله إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي جعله الله تعالى لنا قدوة وأسوة حسنة حيث قال سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ]الممتحنة:4[، فهو قدوة عليه الصلاة والسلام في صفاته الحميدة وأخلاقه المجيدة وما منّ الله تعالى به عليه من مقامات علية سنية.
فحري بالمصلي وهو قائم خلف هذا المقام الحسّي، وهذا الحجر المبارك الذي قام عليه إبراهيم الخليل، أن يلاحظ ويذكر تلك المقامات العليّة والإكرامات الإلهية التي أفاضها الله بها على نبيه وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويسأل الله تعالى في هذا الموطن الذي تجاب فيه الدعوات، وترجى فيه البركات أن يكتب له من تلك المقامات الإبراهيمية النبوية أوفر الحظ والنصيب، فهو سبحانه القريب المجيب.