الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

أهم صفات سليمان (عليه السلام) القيادية

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (85)

 

إن القصص القرآني في سيرة سليمان (عليه السلام) أشار إلى صفاته كملكٍ وحاكم ممكن له في الأرض، وإلى أساليبه في إدارة الدولة، والمحافظة عليها، وتقويتها، وقدمت نموذجاً لأهم الصفات القيادية لرجل الدولة المؤمن بالله، ونهج الحكم الرشيد المستمد من شرع الله تعالى، وأهم هذه الصفات النبوية لنبي الله سليمان (عليه السلام):

1- الإيمان بالله:

الوهاب الغني الكريم، فقد ظهرت قوة إيمانه بالله في قصته، واللجوء إلى الله، والاعتماد عليه ودعاؤه وتضرعه والانكسار بين يديه.

- ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35]

- ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19]

- ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]؛ فقد كان كثير الشكر لمولاه، صاحب قلب حي موصول بالله دائماً ينسب الفضل لرب العالمين، وقد حقق التوحيد وإفراد العبادة لله، وحارب الشرك وحرص على تطبيق منهج الله في الأرض.

2- العلم:

من صفات سليمان (عليه السلام) العلم، وقد بنى دولته وحضارته بالعلم، وابتدأ به على سائر النعم تنويهاً وتعظيماً بشأن العلم:

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ [النمل: 15].

﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: 16].

فالعلم صفة أصلية في شخصية سليمان (عليه السلام) أمده الله بها، فأعلى قيمتها وقدرها العظيم، وقد توجه لله هو ووالده بالحمد والثناء على هذه النعمة، فالعلم هو الأصل الذي تبنى عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه الأساس لكل أمور الدين والدنيا، وأن الممالك إنما تبنى عليه وتشاد، وأن الملك إنما ينظم به ويساس، وأن ّكلّ ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار. وأنه سياج الملك ودرعها وهو سلاحها الحقيقي ودفاعها، وأنّ كل مملكة لم تحم به؛ فهي عرضة للانقراض والانقضاض.

إنّ من قوانين القيادة، وسمات القائد الفذ في كل عصر أن يتصف بالعلم، ويكون على معرفة أن القوة لا تبنى إلا بالعلم والمعرفة. فقوّة العلم في شخص سليمان (عليه السلام) انعكس أثرها الإيجابي على أتباعه وجنوده، وظهر أثر التربية القيادية على جنوده من: الهدهد، الذي عنده علم من الكتاب. فالهدهد قال الله تعالى عنه عندما غاب عن نبيّ الله سليمان: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 22].

والإحاطة هي العلم بالشيء من جميع جوانبه إحاطة متكاملة، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوّته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم؛ ولذلك احترم سليمان (عليه السلام) الهدهد، وأخذ موضوعه ومعلوماته بجدية، وكذلك قصة العفريت من الجن، الذي عنده علم من الكتاب مع سليمان (عليه السلام)، وكيف فُضل بإتيان العرش، هذا الذي عنده علم من الكتاب على العفريت من الجن، ففضلت صفة العلم على صفة القوة والأمانة مع فضلهما في سمات القائد واختياره لأداء المهمة والإتيان بها. وقد أشارت الآيات الكريمة في الحوار بين سليمان (عليه السلام) وعفريت الجن الذي عنده علم من الكتاب إلى أهميّة العلم، وأنّ الذي يأتي بالعلم والحكمة أفضل مما يأتي بالقوة. فهذه القصة تدلّ دلالة واضحة على قوة العلم والمعرفة، وأنها من أعظم سمات القائد، وأن قوة العلم تغلب سائر أنواع القوى وهي تتبع لها.

3- التنظيم والضبط:

إن من سمات سليمان (عليه السلام) في قيادته الحكيمة: قدراته الكبيرة في التنظيم والتخطيط، وإدارة الجموع البشرية في سلاسة وانتظام. فلا ترى في قيادته الفوضى، ولا التخبط والتسيّب في الجنود، بل لكل فرد في مؤسسات دولته عمل دؤوب، بكل إتقان وإنجاز وتحضير.

فنبي الله سليمان (عليه السلام) جُمعت له الحشود والجنود من أجناس المخلوقات من الجن والإنس والطير في موكب عظيم وحشد كبير يجمع أوله على آخر حتى لا يتفرقوا وتشيع فيهم الفوضى، فهو حشد عسكر منتظم ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ [النمل: 17].

وتفيدنا الآية الكريمة عن صورة القائد في حسن قيادته للجنود وقوة نظام الجندية عند سليمان (عليه السلام)، وتربية جنوده على الانضباط المنتظم.

فقد بقيت الآية على مرّ الدهر مذكّرة لنا بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوة والكثرة وحدهما لا تغنيان بدون نظام، وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء، يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.

4- اليقظة والمتابعة والتفقد:

من سمات القائد الفذ واليقظ الإحساس بالمسؤولية والأمانة في تفقد أتباعه وجنوده وموظفيه، وتلمس احتياجاتهم ومتطلباتهم، والإحساس بمعاناتهم ومشكلاتهم، والعمل على وضع الحلول الجادة لعلاجها، من أجل توفير البيئة الإيجابية المنتجة.

وتفقد أمور الرعية، والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعتها، فهذا كان حال سليمان (عليه السلام). وقد قال تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ [النمل: 20].

ولا شك أنّ القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة؛ حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة. إن سليمان (عليه السلام) كان مهتما بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال، وخاصة إذا رابه شيء في أحوالهم. فسليمان (عليه السلام) لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ يعني: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، ثم قال: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد الترفق. فسليمان (عليه السلام) أراد أن يُفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقة فقط، ولكن عن جد وشدة، إذا لم يكن الغياب بعذر.

إنّ سليمان (عليه السلام) لم يترك دولته همَلاً دون متابعة وتفقد. وندرك من افتقاد سليمان (عليه السلام) لهذا الهدهد سمات شخصيته ألا وهي اليقظة والدقة في المتابعة مع الحزم اللازم.

5- الحزم والصرامة:

إنّ نبيّ الله سليمان (عليه السلام) عندما تفقد الجنود، ووجد الهدهد قد فارق جموع الجنود، وأوقع الخلل بسبب تغيبه، استلزم واستحق العقاب الصارم؛ قال: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِين﴾ [النمل: 21]؛ وهذا أصل في صرامة أحكام الجندية وشدتها؛ لعظم المسؤولية التي تحتملها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها، وعظم الخطر الذي يعمّ الذي يعم الجميع إذا أخلت بها، فإنّ الخلل الصغير مجلبة للخلل الكبير ؛ فقدرت عقوبته على حسب كبر ذنبه، لا على حساب صغر ذاته، فإخلال أي أحد بمركزه ولو كان أصغر المراكز، مؤدٍّ إلى الضرر العام، وثبات كل واحد في مركزه وقيامه بحراسته، هو مظاهر النظام والتضامن، وهما أساس القوة.

فالحزم والصرامة من السمات القيادية المهمة للقائد في إدارة أفراد المؤسسة، حتى يقضي على كثير من صور الفوضى والتسبب وعدم الانضباط في العمل المؤسسي. وإذا لم يؤخذ على يد المخطئ انتشرت صور الإهمال واللامبالاة، فأصبحت سابقة سيئة لبقيّة أفراد المؤسسة.

 

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 401-409.

- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/377).

- السمات القيادية المستنبطة من قصة سليمان (عليه السلام)، عبد محمد باربيد، جامعة الأزهر، كلية التربية، رسالة علمية، ص 740-741.

- تفسير ابن باديس، عبد الحميد ابن باديس، دار الكتب العلمية، ط1، 1995مـ، ص 54-260.

- تفسير الرازي، (24/189).

- الحكم والتَّحاكم في خطاب الوحي، لعبد العزيز مصطفى كامل، دار طيبة، ط1، 1415ه - 1995م، (2/592).

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022