ذو القرنين نموذج للقيادة العادلة
بقلم د. علي محمَّد الصلَّابي
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته؛ ولذلك سار في الناس والأمم والشعوب التي حكمها سيرة العدل، فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش، وإنما عاملهم بالمنهج الرباني الذي بينته الآيات المذكورة، وتجلى في قوله تعالى: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ [الكهف: 87-88].
وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه، وعلى فطنته وذكائه، وعلى عدله ورحمته؛ لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم، ليسوا على مستوى واحد ولا على صفات واحدة؛ ولذلك لا يجوز أن يعامَلوا جميعا معاملة واحدة، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الصالح ومنهم الطالح، فهل يتساوون في المعاملة؟
قال ذو القرنين: أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه وكفره، وهذا التعذيب عقوبة له، فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا، ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.
إن الظالم والباغي والكافر في دستور ذي القرنين معذَّب مرتين، مرة في الدنيا على يديه، والأخرى يوم القيامة، حيث يعذبه الله عذابا نكرا، أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين يجزيه الجزاء الحسن، ويكافئه المكافأة الطيبة، ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبرّ ومودة. لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس هو التقوى والإيمان والعمل الصالح، ودائما يتطلع إلى مقامات الإحسان.
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع، وكلّف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا؛ وإن ذا القرنين يقدم لكل مسؤول أو حاكم أو قائد منهجا أساسيا، وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة، والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى؛ وهذا دستور الحاكم الصالح، فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم، والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء.
وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء الإحسان جزاء حسنا، أو مكانا كريما، وعونا وتيسيرا، ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة، عندئذ يجد أن ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج؛ أما حين يضطرب ميزان الحكم، فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم، مقدمون في الدولة، وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون، فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم إلى سوط عذاب، وأداة إفساد، ويعبر نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد.
وهكذا، فإن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن؛ ليزداد في إحسانه، وتفجّر لديه طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان، وتُشعره بالاحترام والتقدير، وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده، حتى يترك الإساءة، وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع، وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب.
مراجع المقال:
- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 60-63.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2291).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/50