الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

من نماذج العدالة في القرآن الكريم والسنة النبوية

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي ...

بقلم: د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (22)

 

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً *}

إننا نحس في التعبير صرامة تشيع في جو الآيات، وتفيض منها، وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله، واتباع هذا التذكير بالنهي على أن يكون خصيماً للخائنين، يدافع عنهم ويجادل، وتوجيهه لاستغفار الله سبحانه عن هذه المجادلة، وتستمر الحملة التي يفوح منها الغضب على كل من جادل عن الخائنين َ وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}، والعتاب الشديد للمنافقين عنهم والمجادلين، يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة واثارها، وللحساب عليها والجزاء.

القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد، ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم، وأن يتخلقوا بخلق الله ـ خلق العدل ـ فيها.

قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا *وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *}

إنها آيات ثلاث تقرر المبادئ الكلية التي يعامل بها الله عباده، والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضاً بها، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء.

الآية الأولى: تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته، وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول.

إنه {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا *} موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب، والذي يعمل السوء يظلم غيره، وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه.

وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين، ويغفر لهم ويرحمهم متى جاؤوه تائبين، هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بواب، حيثما جاؤوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفوراً رحيماً.

ـ والآية الثانية: تقرر فردية التبعة، وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة، الخوف من عمله وكسبه، والطمأنينة من أنه لا يحمل تبعة غيره.

ليست هناك خطيئة موروثة في {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *}، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة، وعندما تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب، توازن عجيب في هذا التصور الفريد هو إحدى خصائص التصور الإسلامي، وأحد مقوماته التي تطمئن الفطرة، وتحقق العدل الإلهي المطلق، المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان.

ـ والاية الثالثة: تقرر تبعة من يكسب الخطيئة، ثم يرمي بها البريء، وهي الحالة المنطبقة على حالة العصابة التي يدور عليها الكلام.

ـ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *}

البهتان في رميه البريء، والإثم في ارتكابه الذنب الذي رمي به البريء، وقد احتملها معه، وكأنما هما حمل يحمل على طريقة التجسيم التي تبرز المعنى، وتؤكده في التعبير القرآني المصور.

وبهذه القواعد الثلاثة يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح، ولا يدع المجرم ناجياً إذا ألقى جرمه على سواه، وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه، ويضرب موعداً مع الله سبحانه في كل لحظة للتائبين المستغفرين الذين يطرقون الأبواب في كل حين، بل يلجونها بلا استئذان؛ فيجدون الرحمة والغفران.

مراجع الحلقة:

- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 68-71.

- في ظلال القرآن (1/756).

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022