السبت

1446-07-11

|

2025-1-11

المكر بعيسى (عليه السلام) ورفعه إلى السماء (2) ....

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (114)

 

قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [آل عمران: 55]:

أبطل الله مكر اليهود ضدّ عيسى (عليه السلام) بأن توفّاه ورفعه إليه وطهره منهم، وقد اتفق علماء المسلمين على نجاة عيسى من القتل والصلب، واختلفوا في قوله تعالى ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾.

- فقال بعضهم في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: إني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك، وذلك بعد إنزالي إليك في آخر الزمان، وعلى هذا يكون معنى ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ إماتته له عند نزوله قبيل قيام الساعة، فالوفاة على هذا القول بمعنى الموت.

- وقال آخرون: إني قابضك من الأرض، فرافعك إلي، قالوا: ومعنى "الوفاة" القبض، لما يقال: "توفيت من فلان مالي عليه"، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ﴾ أي: قابضك من الأرض حياً إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك، ورجّح هذا القول الإمام الطبري.

- وقال آخرون: الوفاة هنا موت حقيقي، فالآية على ظاهرها، فالله أنقذ عيسى (عليه السلام) من اليهود عندما أرادوا قتله، ثم توفاه بعد ذلك وقبض روحه وأماته، ثم رفعه بعد موته.

- وقال آخرون: الوفاة هنا بمعنى النوم، فالله ألقى النوم على عيسى (عليه السلام)، ولما نام رفعه إليه ومعنى الآية: إني مُنيمك ورافعك إليّ في نومك.

- ورجح هذا القول ابن كثير إذ قال: رفعه إلى السماء بعدما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به، وخلّصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان.

ب- معنيان للتوفي في القرآن: الموت والنوم:

- إنَّ إسناد التوفي إلى الله في القرآن -أحيانًا- يراد به الموت وقبض الروح، وهذا في موضعين من القرآن:

الأول: قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 104]، أي: أعبد الله الذي يميتكم ويقبض أرواحكم.

الثاني: قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [النحل: 70]؛ أي: الله هو الذي خلقكم وجعلكم أحياء تعيشون حياتكم على الدنيا، ثم يتوفاكم عند انتهاء أعماركم، ويقبض أرواحكم ويميتكم.

- أحيانًا يراد به النوم، حيث وردت آيات من القرآن تعتبر النوم توفيًا، وتسنده إلى الله، وهذا في موضعين من القرآن أيضًا:

الأول: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 60]، والمعنى: الله الذي يجعلكم تنامون بالليل ويتوفى أرواحكم أثناء نومكم ثم يعيد أرواحكم إلى أجسادكم في النهار: ﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾، وضمير الهاء في (فيه) يعود على النهار.

الثاني: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42] وقد اعتبرت الآية النوم موتًا، وقسّمت الناس بعد النوم إلى قسمين:

- فهناك أناس ينامون ويموتون أثناء النوم، ويكون الله قد قدّر انتهاء آجالهم عند تلك (النومة) فيتوفاهم ويقبض أرواحهم أثناء النوم، ويمسك أرواحهم عنده، ولا يعيدها إلى أجسادهم ويصبحون أمواتًا جثثًا هامدة، وهؤلاء هم الذين قال عنهم ﴿فَيُمسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيها المَوتَ﴾.

- وهناك أناس ينامون، ويتوفى الله أرواحهم أثناء النوم، لكن تكون قد بقيت من أعمارهم بقية؛ فيعيد الله أرواحهم إلى أبدانهم عند الاستيقاظ من النوم، ويصبحون أحياء يتحركون، وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم: ﴿وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً﴾.

وهذان الصنفان من الناس يتوفى الله أرواحهم عند نومهم، فالنوم موت ووفاة، لكن يعقبه استيقاظ وبعث في الصباح، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾: الله يقبض أرواح الأنفس حين نومها، ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾: والله يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، فيخرج أرواحها من أجسادها عند نومها، ويعيدها إلى الأجساد عند استيقاظها.

وهاتان الآيتان (الأنعام: 60، والزمر: 42) صريحتان في أن النوم وفاة صغرى، وأن الله يتوفى أرواح النائمين، ويخرجها من أجسادهم أثناء نومهم، ثم يعيدها لمن كتب لهم الحياة عند استيقاظهم، وقد أكد هذا المعنى -النوم وفاة والاستيقاظ بعث- رسول الله ﷺ في أدعية النوم والاستيقاظ، فقد كان النبي ﷺ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ ‏«اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ»‏‏.‏ وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ‏«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ». والشاهد أنه توافق كلام رسول الله ﷺ مع الآية الكريمة، في اعتبار النوم وفاةً وموتًا، والاستيقاظ بعثًا وحياة.

وإن النصوص السابقة تصرح بأن النوم موت ووفاة، وأن الاستيقاظ بعث وحياة، وهذا معناه أنّ التوفي والوفاة في القرآن الكريم ترد بمعنى الموت الحقيقي، وخروج الروح من الجسد. وقد تعني النوم وخروج الروح من الجسد أثناء النوم؛ لتعود إليه عند الاستيقاظ.

مراجع الحلقة:

- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 533-537.

- صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث (4/350-355). وتفسير الطبري، تقريب وتهذيب، ص456.

- ابن كثير، البداية والنهاية، (12/91).

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022