عيسى (عليه السلام) في العهد الروماني
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليه السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (112)
كان هذا العهد الروماني هو الذي ولد فيه عيسى (عليه السلام) بمعجزة ربانية من دون أب، كما جاءت تفاصيل ذلك في القرآن الكريم.
كانت الحالة السياسية في عصر المسيح (عليه السلام) من أسوأ ما يكون، وأبلغ منها في السوء الحالة الاجتماعية، فبسبب السلطة المطلقة التي كانت بيد الحكام ضاع النظام مع القانون، فحدث تفاوت كبير بين الحكام والمحكومين، فكانت الثروة والترف والطغيان من ناحية، والفقر والهوان من ناحية أخرى.
إضافة إلى الضرائب التي كانت تجيء لحساب روما، وانحصرت أهدف رجال الدين في جمع الأموال، وخلا المجتمع من الترابط والتآلف، وانتشرت العصبية بين الناس وظهرت الفوارق الطبقية.
وكانت التعاليم الإلهية التي جاء بها عيسى (عليه السلام) مناسبة لهذه البيئة وجاءت علاجاً لمشكلاتها، فبينما كانت تسيطر الأجواء المادية في ذلك المجتمع جاءت تعاليم عيسى (عليه السلام) روحية سامية لتعالج ذلك المرض المادي والابتعاد عن حقيقة الدين الصحيح.
إن تفاصيل حياة عيسى وأمه مريم وعائلتها (آل عمران) وقصة زكريا ويحيى في العهد الروماني لبلاد الشام حفظها القرآن الكريم وأهم ما جاء عنها:
- إن تكريم القرآن الكريم للمسيح وأمه وعائلته، يفوق -بلا ريب- تكريم كل من التوراة والإنجيل الموجودَين حالياً. وكان القرآن الكريم بالإضافة إلى هذا التكريم هو المصحح للأخطاء والاتهامات والافتراءات الباطلة التي كانت توجّه إلى السيّد المسيح وأمّه الطاهرة على ألسنة اليهود والمسيحيين أنفسهم.
- في القرآن الكريم توجد سورة آل عمران، وهي اسم عائلة المسيح (عليه السلام)، ولفظة (آل) كلمة تخاطب بها العائلات الكريمة الطيبة، وهذه السورة هي ثاني أطول سورة في القرآن الكريم، وهناك سورة باسم سورة (مريم)، وهو اسم السيدة مريم العذراء والدة المسيح عليهما السلام، على حين لا يوجد في القرآن الكريم اسم لعائلة نبي الإسلام محمد ﷺ، إذ لا توجد سورة تحمل اسم (بني هاشم) أو (بني عبد المطلب)، ولا توجد سورة تحمل اسم (آمنة بنت وهب) والدة الرسول ﷺ.
- ذكر الله عز وجل نشأة عيسى (عليه السلام) ببيان نشأة أمه بياناً لبطلان ما يعتقده النصارى فيه من أنه ابن الله -تعالى الله عن ذلك- فعيسى له أم، وأمُّ عيسى لها أم وأب، ولهما أمهات وآباء إلى آدم.
- وصفت السيدة مريم عليها السلام بالصدِّيقة لكمال إخلاصها وانقيادها لله عز وجل ظاهراً وباطناً، والتعبُّد بطاعته سبحانه في حركة وسكون مع إخلاصٍ عظيم في القصد لله عز وجل. وصفت بالصديقة، لكثرة تصديقها بآيات ربها، وتصديقها ولدها فيما أخبرها به، ووصفت بصدق وعد ربها وهو ميثاق الإيمان.
- جاءت تفاصيل مولد عيسى (عليه السلام) في سورة مريم، بدقة متناهية، وأوصافٍ محكمة للمكان والحالة النفسية التي مرت بها مريم عليها السلام، ابتداء من أخذها للمكان البعيد ومجيء المخاض، وآلامها عند الوضع وتمنيها الموت ومناداة ابنها لها من تحتها، وما صاحب ذلك من نفحات وبركات.
- جعل الله صوم مريم وصمتها عن الكلام آية لها ودليلاً على براءتها وطهارتها، فبينما صامت هي عن الكلام وهي القادرة عليه فقد أنطق الله وليدها عيسى (عليه السلام) الذي لم تمض على ولادته إلا فترة يسيرة، وهو في المهد، فكان كلامه أقوى وأبلغ في إزالة التهمة عنها، كما أنّ السكوت عن السفهاء وعدم الردّ عليهم من أخلاق الصدّيقة العفيفة الطاهرة المطهرة.
- عندما نطق عيسى (عليه السلام) في المهد أخرس كلّ من اتهم والدته، وبيّن معجزته الخالدة في كون الله خلقه من دون أب، وبيّن رسالته في الحياة وأنّه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبياً وأوصاه بالصلاة والزكاة، وبرّه بوالدته، وقدم نفسه لقوم أمه، وذكر عبوديته لله الواحد، وذكر ما سيؤتيه الله من النبوّة والكتاب، ومن السمات والمزايا الإيجابية القائمة على برّه بأمه، وتواضعه وعدم تجبره، أو تكبره، وما سيضفيه عليه من السلام والأمان في حياته، وتوقف عرض القرآن لقصة ميلاد عيسى (عليه السلام) عند هذا الحد.
- بعدما ذكر الله عز وجل سيرة مريم وابنها عليهما السلام بشفافية عالية ومصداقية لا يوجد مثيل لها علّق على القصة بتبيانه: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)﴾ [مريم: 34 - 35].
- بينت الآيات القرآنية بأن عيسى (عليه السلام) عبد أنعم الله عليه، وداعية إلى التوحيد وعبادة الله عز وجل.
- عرض القرآن الكريم موكب الإيمان الجليل يقوده ذلك الرهط من الرسل: من نوح (عليه السلام) إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين، وكان من بينهم عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حتى يُعلم أنّه نبي كباقي الأنبياء والمرسلين وليس هو الله، ولا ثالث ثلاثة، ولا ابن الله.
- شملت رسالة المسيح كذلك الإيمان بالوحي، وأن التعاليم التي يُبلغها ليست من عنده، وإنما يُوحي بها إليه ربُّه، وذكَر اللهُ المسيح َفي القرآن الكريم من جملة من يوحى إليهم من النبيين.
- بيّنت الآيات الكريمة أنّ أصول الشرائع ووحدة الدين عند الله حقيقة دلت عليها النصوص؛ كالأمر بالصلاة والزكاة والصيام والقصاص والجهاد... إلخ.
- اتفقت جميع الرسالات السماوية على أصول الإيمان على امتداد دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام ولم تختلف هذه الرسالات في تقرير أصول الإيمان قبل أن ينال منها التحريف والتبديل؛ لأنها تتحدث عن مقررات ثابتة لا يقوم الإيمان إلا بها فهي حقائق ثابتة لا تتطور ولا تتغير، ولا يدخلها النسخ كما يدخل فروع الشرائع، وقد جاءت النصوص القرآنية تؤكد هذه الحقيقة.
- كان همُّ عيسى (عليه السلام) أن يدعو الناس إلى طاعة الله، وتقديم العبادة له دون سواه، وتحقيق التوحيد تحقيقاً حقيقياً مبنياً على إيمانٍ عميق، ومعرفة راسخة، ومن أصول دعوته الإيمان بالله واليوم الاخر، والملائكة، والكتب السماوية، والأنبياء والمرسلين والإيمان بالقدر.
- إن عيسى (عليه السلام) دعا إلى الإسلام وهو دين الله الخالد الذي لا يقبل الله سواه، وأن هذا الدين هو الدين الذي فرضه الله على البشرية، منذ خلقهم، جاء به آدم، وإدريس ونوح، وإبراهيم، وآل إبراهيم، وآل عمران، وأنه تم برسالة خاتم النبيين، وأن هذا الدين جاء به النبيون؛ لأنه هو الدين الوحيد الذي يدعو إلى الوحدانية الخالصة التي لا يشوبها أدنى شرك. وهو الدين الذي يشمل العقائد الصحيحة والأحكام العامة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، أو بتغير أحوال الناس في سلسلة حياتهم الإنسانية على وجه الأرض، مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وبيئاتهم ومهما تغيرت مِهنهم وحِرفهم وثقافتهم في الحياة الدنيا.
وقد كان عيسى (عليه السلام) يدعو إلى اعتناق رسالة الإسلام، الدين المؤسس على الاعتراف بالخالق ووحدانيته.
- شاء الله عز وجل أن يجعل عيسى (عليه السلام) آية، ولذلك جعل معجزاته عديدة في حياته، وصاحَبته منذ خلقه إلى موته قبل قيام الساعة، ومن أشهر معجزاته، ميلاده من غير أم بلا أب بقدرة الله، وتأييده بروح القدس، وتعليمه الكتابَ والحكمة والتوراة والإنجيل، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، والخلق من الطين ونفخ الروح بإذن الله، وإخباره عن الغيوب، ونزول المائدة من السماء بدعائه.
- الحواريون هم أنصار عيسى (عليه السلام)، فقد استجابوا لدعوة عيسى (عليه السلام) وأصبحوا أنصار الله، آمنوا بالله، وبما أنزل، واتبعوا رسوله.
- تعرض عيسى (عليه السلام) لمكر اليهود وحاولوا قتله، ولكن الله حماه ونجّاه ورفعه إليه.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 523-527.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: