كعب بن مالك.. من النماذج العلمائية الملهمة
بقلم: علي بن محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
من شعراء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن السبعين الذين حضروا البيعة وعاهدوا الرسول – عليه الصلاة والسلام – على الإسلام، وهو صحابي جليل، كان شاعرًا معروفًا في الجاهلية، وأحد الشعراء الثلاثة الكبار الذين جاهدوا في سبيل الدعوة الإسلامية، وناصروا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودافعوا عنه في مواجهة الهجمات الشرسة التي قادها ضده شعراء الوثنية والشرك في مكة.. إنه الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري، رضي الله عنه.
اسمه ونسبه
أبو عبدالله كعب بن مالك الأنصاري، أبوه مالك بن أبي كعب بن القين بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة السلمي. وساردة هو ابن يزيد بن جشم بن الخزرج، والخزرج من الأزد، وهم من قحطان.
كان كعب بن مالك يكنى في الجاهلية بأبي بشير، فكناه النبي – صلى الله عليه وسلم – أبا عبدالله، وكان يقال له أيضًا أبو عبدالرحمن، أما أبوه فهو من مشاهير رجال يثرب قبل الإسلام، كان شاعرًا شجاعًا، وله في حروب الأوس والخزرج التي كانت بينهما ذكر وآثار، ولم يكن له ولد غير كعب (الأغاني، الأصفهاني، أخبار كعب بن مالك ونسبه).
كان كعب حينما أخذت دعوة الرسول الكريم طريقها في رفق وحذر بين سكان يثرب من الخزرج والأوس، في مقدمة المتحمسين لها، فلم تكن تصل إليه الدعوة إلا وقد أصبح من المصلين المتفقهين
سيرته
لا يُعرف بالضبط أين ولد كعب بن مالك – رضي الله عنه – ولا متى ولد، لكن أغلب الظن أن تكون ولادته في يثرب، حيث تقيم أسرته، وأن يكون تاريخها حوالي سنة 25 ق.هـ/ 598م.
وقد نشأ وحيد أبيه، وأكثر الظن أنه كان موضع حفاوة الوالد الشاعر، وقد نشأ كعب فتى متعلمًا، عرف القراءة والكتابة في محيط كانت تسوده الأمية، يندر فيه القارئون الكاتبون، وتهيأت له الفرص ليكون شابًا بارزًا في المجتمع اليثربي قبل الإسلام، ثم في مجتمع مدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد انتشار الإسلام، حيث يعتبر أحد الشعراء الثلاثة من الأنصار، والذين اشتهر أمرهم، والشاعران الآخران هما: حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة.
وضم كعب إلى ذلك مجدًا مكتسبًا أعانه عليه ذهنية واعية مرتبة وحاسة فنية ومشاعر رقيقة، يدل على ذلك كله ما تبقى من شعره وما روى من حديث، خاصةً حديث التوبة الذي تجلى فيه تعبيره الفني، ودقته ورقته، ويدل على ذلك أن كعبًا نبغ في وقت مبكر، وذاعت شهرته كشاعر لأبعد من محيط يثرب الضيق، فامتدت إلى مكة، وبلغت مسامع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث بيعة كعب لرسول الله – عليه الصلاة والسلام – في البيعة الثانية الكبرى.
وكان كعب حينما أخذت دعوة الرسول الكريم طريقها في رفق وحذر بين سكان يثرب من الخزرج والأوس، في مقدمة المتحمسين لها، فلم تكن تصل إليه الدعوة إلا وقد أصبح من المصلين المتفقهين (سيرة ابن هشام).
ويبدو أنه كان يوم البيعة شابًا، لم يتخطَّ العشرين بكثير، ولكنه قام بنشاط مرموق فيها، وقد رُوي عنه في تفصيل البيعة الكبرى أكثر من حديث، ويبدو مما روى كعب من أحاديث أنه كان يتمتع بذاكرة حية، حفظت لنا أحداثًا هامة منها قصة البيعة الكبرى، ومنها حديث الثلاثة الذين خُلّفوا، وقد كان كعب شديد الاعتزاز باشتراكه في البيعة الكبرى، وهي عنده أهم من موقعة بدر، وكان يتمتع ببعد النظر وقدره على استشفاف الأحداث، فها هو يتنبأ منذ يوم بدر بالفتح، ويتوقع أن تتدفق خيل المسلمين تطلع من كداء، يرقبها أبو سفيان:
فلا تعجل أبا سفيان وارقب ** جياد الخيل تطلع من قباء
بنصر الله روح القدس فيها ** وميكال فيا طيب الملاء
وقد روى كعب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عددًا غير قليل من الأحاديث، بلغ ثمانين حديثًا، وروى عنه جماعة منهم ابن عباس وجابر، وأبو أمامه الباهلي، وعمر بن الحكيم، وعمر بن كثير بن أفلح، وغيرهم، وروى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي والنسائي، وابن ماجه، وقد شهد كعب المشاهد كلها، عدا غزوه بدر وتبوك (كعب بن مالك، الرفاعي، ص31).
ويــوم بــدر لـقـيـنـاكـم لـنـا مــدد ** فيه مع النصر ميـكال وجـبـريـل
كعب بن مالك رضي الله عنه
شعره
لم يتخذ كعب من الشعر صناعة يمتهنها أو سبيلًا لكسب العيش، بل صدرت قصائده صدورًا طبيعيًا كما يصدر الضياء عن الشخص، والعطر عن الزهر؛ فمجموع شعره عبارة عن تأثيرات نفسية جاشت في صدره، فتحركت بها قريحته، ودفعته إلى التعبير عما يعتريه من ألوان العواطف والميول والفِكَر، ومع هذا فقد كان حريصًا على المحافظة على السير في طريق الأقدمين من حيث غاية الشعر، ومن هنا تحددت فنون شعره فاقتصرت على ما يلائم شخصه، ويتفق والحياة التي كان يحياها. والأغراض التي نظم فيها هي:
* المديح: ولكنه لم يمدح إلا من توفرت فيه مُثُله الإسلامية، فكان مديحه إشادة بالرسالة والدعوة وحملة الدعوة الأُوَل، ومن المبادئ التي كان كعب يؤكد عليها في مدحه هداية الرسالة الإسلامية، على نحو ما نرى في قوله:
فـيــنـا الرسـول شهاب ثم يـتـبـعـه ** نور مضيء له فضل على الشهب
بدا لــنــا فاتـبـعـــنــاه نـصـــدقـــه ** وكــذبــوه فـكـنـــا أســعـد الـعرب
* الهجاء: ولم يكن هجاؤه تسرعًا بالشعر إلى أعراض الناس، أو قذفًا بألوان الشتائم والمساوئ، بل هجاء لمن ضل عن طريق الحق، ونكب عن سبيل الهداية، وقد عيّر قريشًا بالألقاب التي كانت تتألم منها، نحو قوله:
جاءت سخينة كي تغالب ربها ** فـليُغــلبن مـغـالـب الـــغــلاب
* الفخر: لكنه لم يفخر على الناس بنفسه، أو بما امتاز به قومه من شرف النسب وكرم المحتد تعاليًا، إنما كان فخره بانتشار الدين، وبما جاء به من مآثر أخلاقية ومكارم إنسانية. ويمكن أن نلاحظ هذه المعاني واضحة في فخر كعب بيوم بدر:
ويــوم بــدر لـقـيـنـاكـم لـنـا مــدد ** فيه مع النصر ميـكال وجـبـريـل
إن تـقـتـلـونا فـديـن الله فطـرتنــا ** والقتل في الحق عند الله تفضيل
* الرثاء: ولم يثبت من رثائه شيء قاله في أحد من ذويه، بل كان وقفًا على من تمثلت فيهم فكرته الدينية وإرادته الخيرة، كالرسول – عليه الصلاة والسلام – وعثمان وحمزة، ومن استشهد من الصحابة في معارك الإسلام الأولى، فقد تحدث بسيرة لم تكن تعرفها الجاهلية، فيها المجد والتقوى والإسلام، وفيها الخير والبر والوفاء، وبهذه المآثر والمناقب الجديدة كانت فاجعة الإسلام والمسلمين عند فقد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولفقد هذه المآثر والمناقب كان كعب يلح على عينيه أن تبكيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدمع منهمر:
يا عيـن فابكي بدمـع ذرى ** لخـيـر الـبرية والـمصطفى
وابكي الرسول وحُق البكا ** عليه لدى الحرب عنـد اللقـا
على خير من حملت ناقـة ** وأتـقـى الـبـريـة عـند التقى
على ســيـد مـاجد جحـفل ** وخيـر الأنام وخيــر اللهــا
وقد نظم بعض القصائد ناقض فيها شعراء الكفر الذين هاجموا الإسلام وتصدوا للرسول ودعوته.
هذه هي الأغراض التي يدور حولها شعر كعب، ولكن لا يعني هذا أنه لم يقل في غيرها شيئًا، فكثيرًا ما يمكن الوقوع على البيت أو البيتين في ثنايا قصائده التي نظمها في الأغراض السابقة يصف فيها، أو يُجري الحكمة على لسانه، ولكن الأغراض التي ذكرناها هي التي غلبت على شعره، والذي يلاحظ على فنون شعره أنها متداخلة في القصيدة الواحدة.
هكذا كان كعب رضي الله عنه، رقيق الإحساس جياش العاطفة، تهزه المأساة، وتثيره الفاجعة، فيسيل دمعه غزيرًا، وتذوب نفسه حسرات، ويتفجر شعره ألمًا وحزنًا ولوعة وأسى (كعب بن مالك، العاني، ص116).
أبلى كعب وقومه من بني سلمة بلاءً حسنًا يوم أحد حتى جرح منهم أربعون رجلًا، وجرح كعب يومئذ بضعة عشر جرحًا، ولم تقعد بكعب وقومه هذه الجراح المثخنة عن متابعة الجهاد في سبيل الله
جهاده في سبيل الله
كما حارب أعداءَ الله بلسانه، وذبّ عن رسول الله بشعره، فقد جاهد كعب بسيفه، حتى شهد له الرسول – صلى الله عليه وسلم – بذلك حين قال له: "أنت تحسن صنعة الحرب"، واشترك كعب مع الرسول في جميع المشاهد إلا غزوتَي بدر وتبوك، ولم يكن تخلُّفه يوم بدر عن قصد أو تهاون، إذ تخلف معه قوم من أصحاب رسول الله لم يحسبوا أن المسلمين سيحاربون، منهم أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، ولما رجع رسول الله إلى المدينة هنأه أسيد بنصر الله له وإظهاره إياه على العدو، واعتذر عن تخلفه وقال: إنما ظننت أنها العير ولم أظن أنك تحارب، فصدقه رسول الله.
ولقد أبلى كعب وقومه من بني سلمة بلاءً حسنًا يوم أحد حتى جرح منهم أربعون رجلًا، وجرح كعب يومئذ بضعة عشر جرحًا، ولم تقعد بكعب وقومه هذه الجراح المثخنة عن متابعة الجهاد في سبيل الله؛ إذ بعد أحد التي جرحوا فيها بيوم واحد فقط طلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المسلمين أن يخرجوا لقتال العدو في غزوة حمراء الأسد فوثب المسلمون إلى أسلحتهم وما عرجوا على جراحاتهم، فصفوا لرسول الله فلما نظر رسول الله إليهم والجراح فيهم فاشية قال: اللهم ارحم بني سلمة (سابق، العاني، ص56).
وفاته
اختُلف في وفاته على أقوال: فعن الهيثم بن عدي أنه توفي سنة إحدى وخمسين للهجرة، وقال بذلك القاسم بن عدي أيضًا، وقد ذكر البخشي فقال: إنه مات في خلافة معاوية سنة إحدى وخمسين، وقد بلغ من العمر سبعة وسبعين عامًا (شذرات الذهب، ابن العماد، م1، ص56).